تناقلت وسائل الإعلام الأميركية المرئية والمكتوبة بكثافة خبراً من مصادرها الموجودة داخل اجتماع دول “أوبك +” في فيينا، مفاده أنّ الإدارة الأميركية طلبت من وزراء النفط الـ 23 “تأجيل اتّخاذ القرار بخفض الإنتاج لمدّة شهر واحد” بدل الطلب بخفض الإنتاج عموماً، وذلك لكي يمرّر الحزب الديمقراطي استحقاق الانتخابات النصفية الحاسمة في 8 تشرين الثاني المقبل التي قد تشهد تغيّرات بين الأكثريّة والأقليّة في كلّ من مجلسَيْ النواب والشيوخ وفي حكّام الولايات ومجالسها المنفردة.
إثر إصرار دول “أوبك +” على قرار الخفض والتصويت عليه بالإجماع، ثارت ثائرة الإدارة الأميركية الديمقراطية على دولة واحدة فقط من أصل 23 دولة. فخرجت واشنطن عن طورها ولغتها الدبلوماسية متّهمةً المملكة العربية السعودية بـ”الطعن بالظهر والتخلّي عن حلفائها والانحياز إلى روسيا”، وسعيها إلى إنقاذ موسكو من خلال قرار خفض إنتاج النفط حوالي مليونَيْ برميل يوميّاً. هذا على الرغم من أنّ السعودية ودول الخليج كانت بين الدول الـ143 التي صوّتت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ضدّ ضمّ روسيا للمقاطعات الأوكرانية الأربع.
بدلاً من دعمها للقوى الديمقراطية الإيرانية التي تتظاهر في شوارع المدن الإيرانية منذ شهر تقريباً مطالبة بالحرّيات العامّة وبالديمقراطية وبإسقاط نظام حكم الملالي، تغضّ الإدارة الأميركية الطرف عن انتفاضة الشعب الايراني
تبخّر الكلام الدبلوماسي وحلّت مكانه التعابير الغليظة. وأخذ يتفاقم الوعيد والتهديد بالانتقام وباتّخاذ التدابير العقابيّة وبتفعيل قانون “نو- أوبك” (NOPEC) الذي يُسقط داخل الولايات المتحدة عن الدول الأجنبية حصاناتها الدولية المقرّرة بموجب القانون الدولي واتفاقيات فيينا، ويعرِّضها للمحاكمة الداخلية بتهم الاحتكار.
تناست واشنطن أنّ في الداخل معارضة واسعة لهذا التوجّه. فسيف محاربة الاحتكار بموجب تفعيل مشروع قانون “نو- أوبك” يصيب شركات النفط الأميركية ذاتها وشركات البتروكيمياويات وشركات الإنترنت والبرامج الإلكترونية وشركات الاتصالات الأرضية والخلوية بواسطة الأقمار الصناعية الأميركية المحتكِرة احتكاراً موصوفاً لبرامجها وخدماتها والتي قاضت أوروبا الموحّدة بعضها بعشرات مليارات الدولارات.
اتهامات بايدن “المثبتة”
تتعالى الأصوات المعارِضة داخل الولايات المتّحدة محمِّلة الرئيس جو بايدن وإدارته المسؤوليّة عمّا آلت إليه سياسة الطاقة الداخلية، وعن معاناة الشعب من جرّاء ارتفاع سعر البنزين. كان الرئيس بايدن تفاخَر بتوقيعه 19 أمراً تنفيذياً ملزماً في اليوم الأوّل من تولّيه سدّة الرئاسة، من بينها الحدّ من منح الرخص لشركات النفط للقيام بالمزيد من الاكتشافات النفطية والاستخراج، والحدّ من الاستثمارات الجديدة في مجالات استخراج النفط وتكريره، ووقف العمل بتمديد الأنابيب شبه الجاهزة “كي ستون” الممتدّة من كندا إلى جنوب الولايات المتحدة. وأوقف عدّة مناجم للفحم الحجري وجمّد حتى استعمال الستوكات المخزّنة لديها. كان كلّ ذلك تلبيةً وخضوعاً لتيارات البيئة داخل الحزب الديمقراطي ذاته التي أملت عليه موقفها تحت التهديد بعدم موالاته وبعدم التجديد له في الانتخابات المقبلة.
سبق التهديدَ هذا سحبُ الإدارة الأميركية لصواريخ باتريوت من الإمارات والسعودية ووقف تزويدهما ببعض أنواع الأسلحة وعدم الضغط الكافي على طهران والحوثي لتمديد الهدنة في اليمن على الرغم من أنّ باب المندب ممرّ حيويّ جدّاً للملاحة البحرية وتأمين المرور عبره يحافظ على إمدادات السلع ويمنع الاحتكار.
بالموازاة، وبدلاً من دعمها للقوى الديمقراطية الإيرانية التي تتظاهر في شوارع المدن الإيرانية منذ شهر تقريباً مطالبة بالحرّيات العامّة وبالديمقراطية وبإسقاط نظام حكم الملالي، تغضّ الإدارة الأميركية الطرف عن انتفاضة الشعب الايراني، وتسمح بالمقابل لنظام طهران برفع تصديره للنفط بنسبة 17% عن العام 2021، بحيث بلغ حوالي 3.1 ملايين برميل يوميّاً، متناسية العقوبات المفروضة عليه ومتخلّية عن سياسة العقوبات القصوى.
يهزل دور الدول العظمى عندما تتحكّم ضرورات الانتخابات بالاستراتيجيات العامّة وتتغلّب عليها، وعندما يصبح التكتيك الانتخابي أهمّ من الضرورات الاستراتيجية
ينشرح صدر الإدارة في واشنطن لإفراج الحرس الثوري عن رهينتين أميركيتين، فيُكافأ بوقف تجميد الأموال الإيرانية في كوريا الجنوبية، وبإتمام صفقة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل وحصول أتباعه وأدواته في بيروت على تمويل ذاتي من خلال شركات التنقيب عن البترول والغاز مقابل الشواطئ اللبنانية في شرقي البحر المتوسط. وتصل فرحة نظام الملالي إلى ذروتها مع سلوك الإدارة الاميركية مساراً انحدارياً في علاقتها مع المملكة العربية السعودية بعد قرار “أوبك +” وما سيرتّب من أعباء انتخابية على جو بايدن في 8 تشرين الثاني المقبل. فيا لكثرة الهدايا الثمينة التي منحتها الإدارة الأميركية الديمقراطية لحكم الملالي!
ماذا عن رفع الفائدة؟
تجدر الإشارة إلى أنّ تداعيات سياسات مكافحة التضخّم العالمي لا تتناسب مع رفع مصرف الاحتياط المركزي الأميركي الفوائد 4 مرّات في أقلّ من 9 أشهر، ولا مجاراة البنك المركزي الأوروبي له بزيادة الفوائد على حساب عملة اليورو والجنيه الإسترليني الإنكليزي والين الياباني، ولا سيّما أنّ دول “أوبك +” لم تمارس سياسة عدائية تجاه أيّ طرف، ولم تعرِّض أسواق النفط للاضطراب. فإنتاج دولها كان يقلّ “قبل القرار” بحوالي ثلاثة ملايين برميل يومياً عن الإنتاج المعلَن أو السقف المحدَّد. يرجع هذا الفارق إلى أنّ العديد من الدول لم تتمكّن من إنتاج الكميّات المحدّدة لها، إمّا لعدم توافر طاقات إنتاجية كافية لديها، وإمّا لأسباب عسكرية وأمنيّة، وإمّا لخضوعها لعقوبات. هذا الأمر يجعل قرار خفض الإنتاج مليونَيْ برميل بمنزلة “تحصيل حاصل” نتيجة للواقع العملي، ولن يكون له أيّ أثر فعليّ على كفاية الإمدادات في الأسواق العالمية.
لا يحقّ لأيّ دولة أو لأيّ مجموعة دول تحت أيّ اعتبار تحديد سعر سلعة تنتجها دولة أخرى أو دولة خارج المجموعة، وإلزام الدول المستورِدة بالتقيّد بهذا السقف تحت التهديد بسلاح العقوبات. وفي الوقت نفسه ليس باستطاعة الدول المنتجة منع الإدارة الأميركية من مواصلة سحب مليون برميل إضافية يوميّاً من مخزونها الاستراتيجي الذي كان يبلغ 727 مليون برميل، بحيث وصل مجموع السحب إلى 4.4 ملايين برميل يوميّاً على مدى 180 يوماً. إذاً تهدئة أسواق النفط في الداخل الأميركي تتمّ على يد الإدارة وستتواصل حتى تمرير الاستحقاق الانتخابي.
مسؤولية “اللوبي البيئي” الديمقراطي
كانت الولايات المتحدة أوّل من انتهج سياسة خفض الإنتاج النفطي وإن تحت لافتة بيئية، لا بل إنّ مبعوثها لشؤون المناخ جون كيري جال في العالم قبل قمّة “كوب 26” في غلاسكو عام 2021 منادياً بخفض الاستثمارات في المجال النفطي. وما يضعف موقف جو بايدن وإدارته أنّ جزءاً أساسيّاً من أسعار الوقود في أميركا يعود إلى قلّة المصافي وقِدَمِها وضعف الاستثمارات فيها، وهذا ما أدّى إلى انخفاض المعروض من المنتجات النفطية، ومنها مادّة البنزين.
إقرأ أيضاً: تظاهرات إيران: منتفضون ينتظرون الدعم الدولي..
بالإضافة إلى ذلك فإنّ ما يضعف بايدن وإدارته هو خضوعهما للّوبي البيئي المتحالف مع اللوبي الإيراني داخل الحزب الديمقراطي، واعتبار هذه التيّارات أنّ الانتخابات النصفية هي أهمّ من الاستراتيجية التي وضعت الدولة العظمى الأسبوع الفائت بعد طول غياب بنودها الجديدة ضمن 48 صفحة، والتي لا تعكس الحاجة الأميركية أو الدولية إلى الحلفاء ولا الحاجة الملحّة إلى الطاقة بعدما أصبحت أميركا أوّل دولة منتجة ومصدّرة للنفط.
يهزل دور الدول العظمى عندما تتحكّم ضرورات الانتخابات بالاستراتيجيات العامّة وتتغلّب عليها، وعندما يصبح التكتيك الانتخابي أهمّ من الضرورات الاستراتيجية.
كم من مرّة ندمت واشنطن واعتذرت وتراجعت عن أخطائها؟!
*كاتب لبناني مقيم في دبي