سلّط فوز الفرنسية آني إرنو بجائزة نوبل للآداب الضوء على الأدب الشخصي الذي لم تعرفه الثقافة العربية إلا في لحظات نادرة من تاريخها المعاصر مثلما حدث بطريقة محافظة مع “الأيّام” لطه حسين أو بطريقة أكثر انفتاحاً على الاعتراف الفضائحيّ كما في “الخبز الحافي” للمغربيّ محمد شكري.
وإذا كان الروائيون العرب قد حرصوا على أن يضمّنوا رواياتهم شيئاً من سيرتهم وتجاربهم الشخصية فإنّهم كانوا في الوقت نفسه يسعون قدر ما يتمكّنون إلى إخفاء المعالم التي يمكن من خلالها الاستدلال على صلة الأحداث بهم أو بمَن يقيم في محيطهم. ذلك أمر طبيعي في مجتمعات لا تتّصف فيها علاقات أفرادها فيما بينهم بالشفافية والوضوح والقبول بالحقيقة الصريحة مهما كانت جارحة. لذلك كان البعض يمهّد لروايته بجملة أصبحت من المأثورات: “أحداث هذه الرواية وشخصيّاتها متخيّلة وإن حدث تشابه مع أحداث وشخصيّات واقعية فهو مجرّد صدفة غير مقصودة”، أو جملة أخرى بالمعنى نفسه، وذلك اتّقاءً لوقوع أيّ نوع من سوء الفهم.
صحيح أنّ أشخاصاً مرموقين، أو جلبت لهم وظائفهم نوعاً من الشهرة كالسياسيّين، كتبوا مذكّراتهم أو كُتبها لهم محرّرون. غير أنّ تلك المذكّرات لا تنتمي بأيّ حال من الأحوال إلى عالم الأدب، إضافة إلى أنّها لم تنطوِ على طابع شخصي، بل كانت محاولات لتسجيل وقائع تاريخية، إمّا كان أصحاب تلك المذكّرات أبطالها أو كانوا مساهمين فيها. تلك كتب مسلّية لشريحة عريضة من القرّاء الذين يسحرهم أن يتعرّفوا على التاريخ بطريقة غير رسمية أو كما يُكتب من قبل مؤرّخين لا يشدّهم إلى وقائعه أيّ نوع من العاطفة.
صار الكتّاب العرب، وقد التفتوا إلى كتابة اليوميّات أخيراً، قريبين من لغة الأدب الشخصي. لكنّ الاعتراف يظلّ هو العقدة
الأدب الشخصي يُعنى بسرد الوقائع التي عاشها بخفاء إنسان وحيد وجد أنّه تقع عليه مسؤوليّة الاعتراف بأحزانه ومسرّاته الصغيرة أمام الآخرين لكي تكون تجاربه نوعاً من الدرس لهم. لا يلعب الكاتب هنا دور المرشد الناصح، بل الصديق الحنون الذي يهمس أسراره بإشفاق في أذنٍ يعرف أنّها قادرة على كتمانها. لا يتناقض هذا مع آلاف الطبعات من الكتاب أو حتى إذا تُرجم إلى عشرات اللغات العالمية. فكلّ نسخة إنّما تتوجّه إلى أذن من النوع الذي يشارك في اللعبة الخيالية نفسها. فالكاتب أصلاً لا يعترف بجريمة حين يجرؤ على فتح الأبواب التي تؤدّي إلى حدائقه الشخصية بكلّ ما تحتويه من زهور نضرة وأعشاب ضارّة، لا فرق، فهو لا يشعر بالحاجة إلى الكذب لكي يصنع أدباً. هل كان ذلك هو التعبير الصحيح؟
كان الفرنسي مارسيل بروست في روايته العظيمة “البحث عن الزمن الضائع” قد كتب أدباً شخصياً. آخر ثلاثة من الفائزين بنوبل (جان ماري كليزيو، باتريك موديانو وإرنو) كانوا قد وقعوا تحت تأثير بروست. وإذا ما عدنا إلى “الزمن الضائع” فلا بدّ أن نلاحظ أنّ الصناعة الأدبية قد غطّت على الاعتراف الذي قد يظنّ الكثيرون أنّه كان الدافع الجوهري إلى الكتابة. فتنة الرواية تؤسّس لذلك النوع من الإحساس. ولكنّ “الزمن الضائع” تظلّ بمنزلة إنجيل بالنسبة إلى كتّاب الأدب الشخصي.
صار الكتّاب العرب، وقد التفتوا إلى كتابة اليوميّات أخيراً، قريبين من لغة الأدب الشخصي. لكنّ الاعتراف يظلّ هو العقدة التي إذا لم يتمكّن الكتّاب من تجاوزها فلن تنعم الثقافة العربية بأدب شخصي يكون ناعماً بشفافيّته وغنيّاً باختلافه. فالاختلاف هو ما يعلّمنا الأدب الشخصي.
إقرأ أيضاً: لماذا يخاف المثقف العربي من تناول الحاضر؟
ذلك هو الدرس الأوّل: حين يجرؤ الكاتب على فتح أبواب حديقته الشخصية فإنّه يعلّمنا البوح، وهو ما نحتاج إليه. لقد انتصر كتّاب العالم بحدائقهم الشخصية، فمتى يفتح الكتّاب العرب حدائقهم الشخصية ليرتفعوا بالحياة اليوميّة إلى درجة الأسطورة التي يصنعها الأدب؟