عندما نظّمت مؤسّسة روكفلر مؤتمراً عن الدروس المستفادة من تجارب بؤر التفجّرات في إيرلندا ولبنان ويوغسلافيا السابقة، لم يكن أحد منّا نحن المشتركين في المؤتمر يعتقد أنّ الأمر يتعلّق بالولايات المتحدة من قريب أو بعيد.
كان هدف المؤتمر، الذي عُقد في مقرّ المؤسّسة الذي يقع فوق تلّة تشرف على بحيرة كومو في شمال إيطاليا، المقارنة بين التجارب الثلاث واستخلاص الدروس والعِبر منها: التجربة اللبنانية بأبعادها الطائفية، والتجربة اليوغسلافية بأبعادها العنصرية: الكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس والبوشناق المسلمين. والتجربة الإيرلندية بأبعادها المذهبية: الإيرلنديين الكاثوليك والإنكليز الأنغليكان الإنجيليّين.
الحرب الأهليّة لم تجد لها نهاية إلا على قاعدة تكريس التفرّق، فكانت للكروات دولة، وللصرب دولة، وأمّا البوشناق فكانت دولتهم شراكة مع الصرب والكروات، وهي البوسنة
كان الحضور الأميركي حضوراً مراقباً. ولم ندرك إلا متأخّرين أنّه كان الأكثر اهتماماً بدراسة المحن الثلاث وأسباب تفجّرها ومراحل صراعاتها والتدخّلات الخارجية مع أو ضدّ، ثمّ النتائج التي أدّت إلى التسويات السياسية.
عاش الاتحاد اليوغسلافي في قبضة بوليسية شديدة. كانت الوحدة الوطنية وحدة مفروضة، وطوال العهد اليوغسلافي (الشيوعي والمستقلّ نسبيّاً عن موسكو) تمكّنت القبضة الحديدية من المحافظة على وحدة المجتمع، إلا أنّها لم تشكّل مجتمعاً واحداً. وهكذا ما إن تراجعت القبضة الحديدية حتى “انفخت الدفّ وتفرّق العشاق”، وبات كلٌّ يغنّي على ليلاه.
حتّى الحرب الأهليّة لم تجد لها نهاية إلا على قاعدة تكريس التفرّق، فكانت للكروات دولة، وللصرب دولة، وأمّا البوشناق فكانت دولتهم شراكة مع الصرب والكروات، وهي البوسنة.
الدرس العامّ الذي خرج به المؤتمر هو أنّه عندما تقوم الشخصيّة الوطنية على قاعدتَيْ القوميّة والدين معاً، فإنّ من المتعذّر، بل من المستحيل، أن تتماهى هذه الشخصية، أو أن تتكامل، أو حتى أن تتعايش مع شخصية وطنية أخرى. فقد تحاربَ الصرب والكروات قبل قيام الدولة اليوغسلافية الاتّحادية. ولم يتعايشوا في ظلّ تلك الدولة إلا بالقوّة. ولمّا ارتفعت القبضة الحديدية، تفرّق العشّاق كلٌّ في طريق. وهذا ما حدث مع البوشناق المسلمين الذين ينظر إليهم الصرب والكروات على أنّهم من بقايا العثمانيين لمجرد أنّهم مسلمون. والواقع أنّهم عنصريّاً مثل الصرب والكروات من أهل البلاد الأصليين، لكنّهم اعتنقوا الإسلام، فرفضهم الكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس. ولا يزالون يرفضونهم حتى اليوم. فالصيغة الاتحادية التي تقوم عليها البوسنة اليوم هي صيغة هشّة معرّضة للسقوط في أيّ لحظة.
تختلف هذه التجربة عن التجربة اللبنانية. ذلك أنّ المسلمين والمسيحيين ينتمون إلى قوميّة واحدة. وخلال مؤتمر مركز روكفلر، قدّمنا دراسة أعدّتها مجلّة أميركية محترمة هي مجلة “ناشيونال جيوغرافيك ماغازين” (عدد تشرين الأول 2004) تثبت من خلال فحص ميداني لحامض الـ”دي.إن.إي” (DNA) أنّ اللبنانيين جميعاً مسلمين ومسيحيين يتحدّرون من أصول فينيقية، وأنّ الفينيقيين أسلافهم يتحدّرون من أصول كنعانية، وأنّ الكنعانيين هم عرب هاجروا مبكراً من الجزيرة العربية (1200 عام قبل المسيح). ولذلك ليس غريباً أن ينصّ اتفاق الطائف الذي صدر فيما بعد على عروبة لبنان وانتمائه العربي. وقد اشترك في إعداد الدراسة الجينية البروفسور سبنسر ولز (أميركي) والبروفسور بيار زلّوعة (لبناني).
لإيرلنديين واليوغسلافيين السابقين كانوا معنيين ومهتمين بدراسة نماذج متقاربة أو متناقضة، إلا أن الذين كانوا أشد اهتماماً هم من العلماء الأميركيين الذين كانوا يتابعون عروض الحالات الثلاث ومناقشة خلفياتها باهتمام
أمّا على الصعيد الديني فإن الاسلام يؤمن بالمسيحية رسالة من عند الله. ويؤمن بالإنجيل موحى به من عند الله. ويؤمن بالسيّد المسيح نبيّاً ورسولاً ومن روح الله، ويؤمن بعذرية أمّه مريم.
لقد فوجئ كثير من المشتركين في المؤتمر عندما تحدّثنا عن هذه الثوابت الإيمانية وعن دور المسيحيين العرب في النهضة الثقافية العربية وفي إحياء اللغة العربية والدفاع عنها ضدّ “التتريك” في العهد العثماني، وكيف أنّ مسلمين ومسيحيين ناضلوا معاً وأُعدموا معاً في مواجهتهم العثمانيين ثمّ الفرنسيين.
طبعاً كان السؤال: إذا كان الأمر كذلك فلماذا انفجرت الحرب الأهلية؟
كان الجواب أو جانب منه أنّ لبنان جزء من منطقة زُرعت فيها إسرائيل لتكون دولة عنصرية دينية. وهي تعمل منذ إنشائها ليس فقط على تعطيل وتفشيل التجربة اللبنانية بصيغتها التعدّدية التي تقوم على قاعدة الوحدة في التنوّع، بل وتعمل على تمزيق الدول الوطنية القائمة في المنطقة (مشروع برنارد لويس) بحيث يكون لكلّ جماعة دينية أو عرقية أومذهبية كيان خاص بها، من باكستان حتى المغرب. وقد نُشر المشروع في مجلّة إيغونيم الإسرائيلية واعتُمد ليكون أساساً لما سمّته المجلة في حينه “استراتيجية إسرائيل في الثمانينيّات”. ونذكر هنا أنّ إسرائيل غزت لبنان ووصلت حتى بيروت في عام 1982.
صحيح أنّ الإيرلنديين واليوغسلافيين السابقين (من الصرب والكروات والبوسنيين) كانوا معنيين ومهتمّين بدراسة نماذج متقاربة أو متناقضة، إلا أنّ الذين كانوا أشدّ اهتماماً هم من العلماء الأميركيين الذين كانوا يتابعون عروض الحالات الثلاث ومناقشة خلفيّاتها باهتمام.
إقرأ أيضاً: خطر الصراع النّوويّ.. النجاة بالسياسة
أمّا لماذا كان هذا الاهتمام، فإنّ الجواب عند العالِم الأميركي الشهير صموئيل هانتنغتون صاحب كتاب “صراع الحضارات”. فهو أيضاً صاحب كتاب عن صراع حضاري آخر يُخشى أن يكون مسرحه الولايات المتحدة ذاتها، وقد نشر كتابه قبل وفاته، ليحذّر من الأخطار المحدقة بالمجتمع الأميركي دينياً وعنصرياً على حدّ سواء.
فهل كان اقتحام الكونغرس على يد جماعة من المتطرّفين البيض المؤيّدين للرئيس السابق ترامب أوّل الغيث؟!