اتّخذ بوتين من مجده العسكري الجليدي في سوريا مثالاً وقاعدة، فذاب الجليد وتحوّل إلى ماء، وأمسى جيش القيصر بلا فاعليّة، غارقاً في وحل مروج أوكرانيا. فشلت روسيا في تحقيق معظم أهدافها، وأوّلها الإطاحة بحكومة كييف في عملية عسكرية خاطفة، وارتكبت أخطاء كبيرة خلال مرحلتَيْ خطيط حملتها العسكرية وتنفيذها في أوكرانيا: سوء تخطيط عسكري، مشاكل لوجستية كبيرة، وسوء في الاستعداد القتالي. وهذه الإخفاقات تجبر الجيش الروسي على إعادة التفكير جذرياً في التدريبات والهيكل التنظيمي، إضافة إلى التكتيك اللوجستيي وسياسات التخطيط. لذا هربت روسيا إلى الأمام بضمّ أجزاء من شرق أوكرانيا وجنوبها، جاعلة منهما ورقة في يدها لابتزاز العالم في المستقبل، وانتصاراً معنوياً لها ولمواطنيها. ومن أجل تثبيت ضمّ الأراضي الأوكرانية المحتلّة، يجب الاحتفاظ بالسيطرة عليها وتعزيزها، ومنع أوكرانيا من استعادتها.
قرّر الرئيس الروسي من خلال الضمّ التخلّي عن خيار استخدام وكلاء داخل النظام السياسي الأوكراني، ووقف نهج الحرب الهجين الذي اتبعه في أوكرانيا منذ عام 2014، لأنّه يعلم أنّ غزوه الأخير قد دمّر إمكانية العودة إلى الأطر السياسية السابقة للكرملين
مؤشّر الضعف
لخطوة الضمّ القيصرية دلالة واضحة على الوضع المتدهور للجيش الروسي في أوكرانيا. فهو لم يحقّق الأهداف الإقليمية. والدافع الأساسي للضمّ هو ضعف بوتين العسكري، ورغبته في إدخال الردع النووي الإعلامي والمناورة به، للاحتفاظ بالسيطرة على الأراضي الأوكرانية المسلوبة. إنّه إقرار بوتين الضمني بعجز القوات الروسية وعدم قدرتها على تحقيق أيّ تقدّم إضافي. فقرار الضمّ هو نتيجة قصور في تغطية المزيد من الأراضي، ودعم قيادته الضعيفة ميدانياً، ومجابهة الهجمات الأوكرانية المضادّة التي من الممكن أن تدفع الجيش الروسي إلى الانهيار.
قرّر الرئيس الروسي من خلال الضمّ التخلّي عن خيار استخدام وكلاء داخل النظام السياسي الأوكراني، ووقف نهج الحرب الهجين الذي اتبعه في أوكرانيا منذ عام 2014، لأنّه يعلم أنّ غزوه الأخير قد دمّر إمكانية العودة إلى الأطر السياسية السابقة للكرملين، ولأنّه يسعى إلى استعادة الردع الروسي الموثوق به من خلال تهديد نووي.
بغضّ النظر عن منطق بوتين فإنّ ضمّ الأراضي الأوكرانية مباشرة تحوُّل أساسي في نهج الكرملين: من الحرب المختلطة والتلاعب السياسي إلى الإكراه العسكري الصريح. وهذا “المنحدر” الوحيد الذي يهتمّ بوتين بمتابعته في هذا الوقت لحفظ ماء وجهه، والذي لا يرقى إلى مستوى أهداف الحرب الأوّلية المتمثّلة في تغيير النظام في كييف.
وضمّ مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية إعلان نصر غير ملموس، يهدف إلى بيع تكاليف الحرب إلى الشعب الروسي والجماهير العالمية المتعاطفة مع روسيا في مواجهتها العدوان “النازي” الأوكراني المزعوم مع الإبادة الجماعية ضدّ المتحدّثين بالروسيّة. ويريد بوتين تكريس أمر واقعيّ يمنع المفاوضات حول الحدود الإقليمية من أجل وقف إطلاق النار وتأكيد أنّ روسيا لن تناقش وضع الأراضي الروسية، التي ضُمّت بشكل غير قانوني خلال الغزو العسكري. والحجّة التي استخدمها الكرملين في ما يتعلّق بشبه جزيرة القرم، يمكن أيضاً أن يتعامل بالمنطق نفسه مع مطالب المفاوضين الأوكرانيين إعادة الأراضي السيادية الأوكرانية، باعتبار أنّ مطالبة روسيا بالتخلّي عن أراضيها سخيفة ويجب رفضها.
تداعيات سياسيّة
بعد قرارَيْ ضمّ الأراضي الأوكرانية المحتلّة والتعبئة الجزئية للقوات الروسية، لم يبقَ للحرب في أوكرانيا إلا مرحلة واحدة: نهايتها إمّا بتسوية، أو بهلاك الجيش الروسي الذي يستمرّ في السعي وراء أهداف عسكرية مستحيلة بموارد غير كافية. فالتعبئة لن تنجيه. وقد يتوقّف العديد من المخاطر على اعتراف روسيا بضعفها العسكري التقليدي، وبقرار استباقي للحفاظ على المكاسب الروسية في أوكرانيا. ويشير قرار بوتين الخاطئ بغزو أوكرانيا – على الرغم من ضعف استعداد روسيا وقدراتها العسكرية التقليدية – إلى أنّ الغرب يجب ألّا يعتمد على تقييم روسيا قدراتها العسكرية. فإذا اتّخذت القوات الروسية قراراً متعمّداً بإنهاء هجومها قبل أن يجبرها الأوكراني على ذلك، فسيكون هذا القرار مؤشّراً قوياً إلى أنّ الضمّ بات واقعاً وورقة مهمّة على الطاولة وفي رسم الخرائط والحدود السياسية المستقبلية.
على مدى السنوات الثماني الماضية، استولت موسكو على أجزاء كبيرة من الأراضي الأوكرانية وحاولت الإطاحة بالحكومة. والاحتمال ضئيل جدّاً بأن يتوقّف بوتين الآن إلا إذا طرأ حدث غير متوقّع، كأن يكون محاصراً. من الصعب أن تستعيد أوكرانيا أراضيها. والنتيجة الأسوأ هي سماحها لروسيا بضمّ المزيد من الأراضي الأوكرانية بحكم الأمر الواقع، فالاسترضاء الدائم يزيد من شهيّة الديكتاتور ولا يجعله ينتهي إلا بنهايته هو فقط.
يجب أن يكون الهدف العسكري الأميركي والغربي الرئيسي هو تقديم مساعدة عسكرية حقيقية وكافية لمساعدة أوكرانيا على استعادة الأراضي في الشرق والجنوب. إذا أرادت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحويل ميزان القوى لصالح أوكرانيا، فعليهما الاستفادة من الغضب داخل روسيا من قرار التعبئة الجزئية والارتباك في شأن فكرة الحدود الجديدة. وسيتعيّن عليهما أيضاً تزويد أوكرانيا بمزيد من العتاد والأسلحة والمنصّات غير الكلامية، التي تسمح للجيش الأوكراني بشنّ عمليات هجومية أكثر فاعليّة ضدّ القوات الروسية.
إقرأ أيضاً: هدف الأوراسيّة المتجدّدة أو “الدوغي – بوتينيّة”
لن تنتهي الحرب من دون اتفاق. فالعواقب السياسية والأخلاقية للاحتلال الروسي الطويل الأمد بكلّ إخفاقاته لجنوب شرق أوكرانيا، ستكون مدمّرة للدولة الأوكرانية، ومغطساً مفخّخاً لروسيا. والمخرج الوحيد لروسيا هو السعي إلى تسوية من أجل حفظ ماء الوجه وتحقيق انتصار جزئي ولو أنّه صعب، سواء بضمّ الأراضي المحتلّة، أو تثبيت استقرار الصراع على طول خطوط الجبهة الجديدة. وإذا لم تستعِد القوات الأوكرانية أقاليمها المحتلّة والمسلوخة بسرعة، وتتغلّب على المشاكل المتعلّقة بالقوة البشرية والأسلحة ومعنويات القوات واللوجستيات، مع تكثيف التعاون والدعم المحلّي والدولي وحصر حالات الفوضى والغضب، فقد تجد كييف أنّ الجنوب الشرقي قد غرق بشكل لا يمكن إصلاحه ولا استرجاعه كما حدث مع شبه جزيرة القرم.