هجرة الزمان والمكان.. القرضاوي نموذجًا

مدة القراءة 5 د

فى عام 1989 دعانى مثقف قطرى صديق، هو الأستاذ يوسف درويش، لإلقاء محاضرة افتتاحية لنادى (الجسرة) فى مدينة الدوحة، فقبلت الدعوة وسافرت أنا وزوجتى وأقمنا فى فندق شيراتون الذى كان يبدو وقتها تحفة فنية بمصاعده الزجاجية المكشوفة، وقد زارنى مساء يوم الوصول فى الفندق الشيخ القرضاوى الذى كان يتردد على مصر من حين إلى آخر وقد قابلنى شاكيًا من معاملة رجال الداخلية المصرية له فى المطار وتعطيله عند الدخول والخروج، وطلب منى أن أبلغ الرئيس مبارك الذى كنت سكرتيرًا سياسيًا له بالنظر فى هذا الأمر.

وأهدانى عددًا من كتبه وجلس معنا لأكثر من ساعتين يتحدث عن ذكرياته ومشكلاته، وصمم على حضور محاضرتى فى اليوم التالى والتى احتشد فيها عدد كبير من المصريين والقطريين، وأتذكر أن المعلق الرياضى الشهير، محمد لطيف، قد حضر تلك المحاضرة وجلس فى الصف الأول إلى جانب الشيخ القرضاوى وأعضاء السفارة وبعض كبار المثقفين من ذلك البلد العربى الشقيق، وفى اليوم التالى أبلغت أن ولى العهد، الشيخ حمد بن خليفة، سوف يستقبلنى عند الظهر ومعى سفير مصر الراحل عصام حواس، وأتذكر أن ولى العهد الذى أصبح أميرًا للبلاد بعد ذلك بعدة سنوات قد قال لى إنه يستقبل دائمًا الضيوف المصريين ليستمع إلى آرائهم حول ما يدور فى المنطقة.

وأضاف أنه قد قرر تأجيل رحلة صيد له إلى (البر) – ربما فى باكستان على ما أتذكر- وذلك حتى يتمكن من الالتقاء بوزير الداخلية المصرى زكى بدر الذى سوف يزور قطر وقتها، وعندما عدت إلى القاهرة أبلغت الرئيس برسالة الشيخ القرضاوى فقال لى: قل ذلك للوزير زكى بدر، وكان رد الوزير على: إننا مستعدون للتخفيف من القيود على دخوله وخروجه إذا خفف هو من أنشطته داعمًا للإخوان ومدافعًا عنهم فى كل مكان!

دار الزمان دورته ورحل الشيخ القرضاوى عن عالمنا منذ فترة وجيزة، ونعاه الكثيرون فى قطر وفى أنحاء العالم الإسلامي

وقد دار الزمان دورته ورحل الشيخ القرضاوى عن عالمنا منذ فترة وجيزة، ونعاه الكثيرون فى قطر وفى أنحاء العالم الإسلامى، وقد سمعت تسجيلًا صوتيًا له يقول «إن نظامًا يدافع عن الحرية أهم لديه من نظام يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية» مؤكدًا أنه كان دائمًا داعية معتدلًا للإسلام، وأنه فضل أن يكون مرشد الأمة كلها بدلًا من أن يكون مرشدًا لجماعة فيها، وتذكرته وهو يلقى خطابه فى مصر على المنبر فى صلاة الجمعة وميدان التحرير أثناء أحداث ما بعد 25 يناير2011 وكيف كانت سعادته وهو يحلم بأن حكم القرضاوى وإخوانه قد أصبح وشيكًا وسوف يمكث طويلًا، وأتذكر الآن حديثًا لى مع الرئيس الراحل مبارك فى عام 1990 عندما اشتدت وطأة الضربات الإرهابية فى مصر التى طالت عددًا من السياسيين والبرلمانيين ورجال البنوك، وكيف أنها تحتاج إلى محاولة تهدئة تجمع الشارع المصرى على كلمة سواء، وأضفت قائلًا: سيدى الرئيس إننى ألاحظ أن رجال الدين من خارج المؤسسة الرسمية أضعف تأثيرًا منهم إذا كانوا داخل المؤسسة بدليل أن الشعبية الكبيرة لأربعة من أقطاب الدعوة هى لعلماء ومشايخ لا يعملون كمسؤولين فى الحكومة أو توابعها.

وأضفت أن الأربعة الكبار وقتها هم الشعراوى والغزالى والقرضاوى وسيد سابق، وكانوا كلهم أحياء فى ذلك الحين، رحمهم الله، وأضفت له أنه لو اخترنا أحدهم شيخًا للأزهر فسوف يكسب لتلك المؤسسة الدينية الرسمية جزءًا من مكانة الداعية الجديد فقال لى: ومن قال لك إننا لم نفعل ذلك، لقد طلبت من رئيس الوزراء الراحل فؤاد محيى الدين مفاتحة الشيخ الشعراوى فى قبول منصب مشيخة الأزهر بعد رحيل الشيخ عبدالرحمن بيصار، لكن الشيخ الشعراوى رفض المنصب، فاندهشت لذلك الموقف، وفى مساء ذلك اليوم اتصلت بصديقى الشيخ محمود عاشور الذى كان زميلى فى منظمة الشباب، ووصل بعد ذلك إلى منصب وكيل الأزهر الشريف فقال: أمهلنى حتى أسأل الشيخ الذى كان قريبًا منه بصفة دائمة، ورد على بعد وقت قصير قائلًا: إن الشيخ الشعراوى يؤكد أن الأمر لم يحدث على الإطلاق، وأن الدكتور فؤاد محيى الدين لم يفاتحه فى هذا الأمر لأنه كان لا يحب الشيخ ولا يفضل التعامل معه.

إقرأ أيضاً: الدين والسُّلطة.. القرضاوي ضدّ الشيخ القرضاوي

وعندما أبلغت الرئيس بذلك قال لى: وماذا أفعل إن الأمر بينهما وكلاهما فى العالم الآخر وأمرهما موكول إلى الله، إننى أقول ذلك لكى أؤكد أن شعبية الداعية هى جزء لا يتجزأ من مضمون دعوته، ولقد كان للشعراوى ورفاقه شعبية كاسحة فى الشارع الإسلامى كنت أود استثمارها فى تكريس صورة الإسلام المعتدل والدفع بها إلى الصفوف الأولى حتى نتخلص من ذلك الداء اللعين الذى أصاب الإسلام والمسلمين ونكب الشعوب والأمم بجرائم الإرهاب تحت مظلة زائفة من الدين الحنيف وهو منها براء، فالإسلام دين التسامح والمحبة واحترام الغير ومودة الآخر.. رحم الله القرضاوى ومن سبقه ومن لحقه، إذ إن حساب الجميع يكون فى مقعد صدق عند مليك مقتدر!.

*نقلاً عن المصري اليوم

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…