ما إن بدأت تتّضح نتائج محاولة فلاديمير بوتين الفاشلة في غزوته الأوكرانية، حتّى أثارت إيران بربيع نسائها جلَّ ترقبنا وانشدادنا. وذلك لدواعي التأثير الإيراني الفكري والأمني والاقتصادي المباشر علينا: نحن ما كان يعرف قبل قرن بـ”الولايات العربية العثمانية الشمالية”، أي العراق، سوريا، لبنان، فلسطين، وحتّى الأردن.
شتات الثائرين
ليس الحديث هنا عن إمكانات أو احتمالات نجاح أو فشل الربيع الإيراني النسوي ظاهرًا. وهو يعبّر في جزء منه عن شعور الأكراد وعرب الأهواز وسنّة البلوش والتيار المدني العريض بالتهميش وضغوط ولاية الفقيه عليهم. بل نقارب اليوم التالي: احتمال نجاح “الربيع الإيراني” ودورة العنف المحتملة بعد نجاحه.
تبيّن قراءة تاريخ الثورات أنّها ضرورية لنفض حال الركود والخمول وسعادتهما اللذيذة. والثورات مطلوبة لفتح أفق تغيير وتحول اختمرا وحان أوانهما، فلا “النعم” الدائمة السعيدة تدوم، ولا “اللا” مستدامة وتنفع.
تقوم الثورات دوماً على نظام ثابت استقرّ بقيمه ومفاهيمه. وحين تأتي نهاية الثورة، غالباً ما يكون هناك شتات جماعات وفئات تخرج من جلباب النظام القديم، وتجتمع للانقضاض عليه. فإذا ما نجح هذا الشتات في قلع الجلباب القديم وتمزيقه، يدخل الشتات تالياً في صراع وتصفيات مريرة في ما بين أطرافه وجماعاته المنتفضة، إلى أن ينفرد الشتات الأكثر راديكالية وتماسكاً وتمويهاً في إقامة نظامه. أي جلبابه الخاصّ به، ليستمرّ بضعة عقود وتعود الدورة إلى سيرتها الأولى.
ما إن بدأت تتّضح نتائج محاولة فلاديمير بوتين الفاشلة في غزوته الأوكرانية، حتّى أثارت إيران بربيع نسائها جلَّ ترقبنا وانشدادنا. وذلك لدواعي التأثير الإيراني الفكري والأمني والاقتصادي المباشر علينا
شواهد الشتات
– خلال الثورة الفرنسية 1789-1799، كانت العشرية الدموية. انفجرت تلك الثورة بعد استقرار طويل الأمد لأسرة آل بوربون، وحينما تجمعت الظروف من اقتصادية طبقية وجفاف طبيعي مع تغيّرات فكرية عاصفة، وظهرت قيادات عسكرية منها رانتون وكليبر ونابليون وماكسمليان روبسير واليعاقبة ومحاكم ثورية وحكم المديرين. ثم استقرت الأمور داخلياً بانفراد نابليون وحكومة القناصل واندفاع فرنسا إلى الخارج.
– في الثورة الشيوعية وفي ظروف الحرب العالمية الأولى وخسائر جيوش القيصر العسكرية ومساعدة ألمانيا، قامت ثورة أكتوبر 1917 الروسية، وأعدم القيصر. وانخرطت قيادات الثورة في تصفيات متبادلة، لينفرد ستالين بإقامة ستاره الدموي بعد تصفية الرفاق.
– الثورة الناصرية في 23 يوليو 1952 على الملك فاروق استغرقت سنتين كي يزيح جمال عبد الناصر معظمَ وجوه حركة تنظيم الضباط الأحرار، ولينتهي محمد نجيب مخفوراً في إقامته الجبرية بمصر، مقطوعاً عن العالم.
– في الثورة الجزائرية 1954 باشر تكتل جبهة التحرير بإزاحة حزب الحركة الوطنية، بزعامة مصالي الحاج صاحب شعار “نجمة أفريقيا وهذه الأرض ليست للبيع”. ومع تقدم الثورة في الأرياف بعد المدن، انخرط قادة الجبهة في صراعاتهم، ليعود أحمد بن بلّا بعد اتفاقية إفيان، قبل أن يزيحه هواري بومدين ويرأس الجزائر دهراً.
– في ثورة 14 تموز 1958 بالعراق، وفور إعدام الملك فيصل الثاني ونوري السعيد وغيرهم، باشر “الزعيم” عبد الكريم قاسم بإبعاد شركائه في الثورة وأولهم تلميذه السابق في الكلية الحربية والمشارك معه في حرب فلسطين، عبد السلام عارف. وكانت مجازر الموصل بأهلها وعبد الوهاب الشواف وناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري، وبمشاركة الحزب الشيوعي وبيئته القلقة. لتدور الدوائر عليهم بتحالف ناصري – بعثي أعدم عبد الكريم قاسم أمام عدسات التصوير. وأزاح البعث، الأكثر تنظيماً، الأخوين عارف، بانقلاب أحمد حسن البكر، فوصل صدام حسين لينفرد بقيادة البعث.
– في الفاتح من سبتمبر 1969 أطلّ علينا العقيد معمّر القذافي، أمين القومية العربية، بثورته التي مهّد لها بتسريب أسماء أعضاء شركائه، مبادراً مسبقاً إلى إزاحة الخصوم ليتلوهم بعد “الفاتح” عمر المحيشي رفيق القذافي في الثورة. واستقرّ الأمر للجان القذافي في كل مكان مع عبد السلام جلود، في إنتظار أن يكبر أولاد القذافي.
– ليس من داعٍ لذكر انفراد البعث القطري واللجنة الخماسية وصلاح جديد و”حافظ الأسد” والقرداحة بالحكم في سوريا في 1970، قبل أن يقضي الأسد على رفاقه، ويستقرّ وضعه بعد 1973 ويتمدّد إلى لبنان “لحفظ العروبة وحماية المقاومة الفلسطينية”، كما كانوا يرددون.
– في ثورة الخميني 1979 التي أزاحت الشاه وحزبه (راستاخيز = البعث) صفّيت طبقته كلها. وشاركت في الثورة ضد الشاه تيارات عدة إسلامية وليبرالية ويسارية، من مهدي بازركان إلى حوالي 24 فصيلاً كحزب توده الشيوعي ومجاهدي خلق وبقايا فدائيي خلق وتيار إسلامي عريض من حجتيه ومرجعيات عمائمية. وكلها اختفت وتوارت وصفيت بعد صراع دموي بينها انتصر فيه الخميني، الأشدّ ردكالية بينهم. واستقرّ الوضع لنظام ولي الفقيه وحرسه الثوري ثم لخليفته خامنئي، الذي يواجه اليوم شتات منتفضين عليه.
تبيّن قراءة تاريخ الثورات أنّها ضرورية لنفض حال الركود والخمول وسعادتهما اللذيذة. والثورات مطلوبة لفتح أفق تغيير وتحول اختمرا وحان أوانهما، فلا “النعم” الدائمة السعيدة تدوم، ولا “اللا” مستدامة وتنفع
شتات الشتات
في اليمن، من علي عبدالله صالح إلى الحوثي ودمار يمني شامل بمشاريع مشابهة لمشروع الإثني عشرية الخمينية.
في سوريا لم يسقط نظام الأسد بعد ثورة 2011، إذ باشر بتفكيك المعارضة وضربها، فدبت الصراعات بين أطرافها، وانفرط عقدها باكراً.
في لبنان، “وطن النجوم” سابقاً وأرض “جهنم” حالياً، امتصت هذه الجماعة أوتلك شتات انتفاضة 17 تشرين 2019، فانتهى قطع الطرق واقتلعت خيم الاعتصامات، فلا تنسيقيات ولا تشبيك ولا نواديَ علمانية. فما حصل عملياً هو وصول مجموعة من 13 نائباً إلى البرلمان في زحمة الانتخابات للمشاركة في فولكلوريات الطاقم السابق. واتضح أن شتات الشتات، أعجز من أن يواجه تركيبة كالتركيبة اللبنانية.
دائماً كان هناك رجل دين يعِد بسعادة لا تتحقق إلا في الآخرة. وكان هناك دائماً رجل مادة يقدم التقنيات للحاضر. وكان هناك دائماً الرجل الثالث، المنبوذ من كليهما، وهو رجل فلسفة يطرح سؤالاً ويشخص مآلات الحاضر ويدل على قرن دنيوي قادم.
إقرأ أيضاً: مع الولي الفقيه لا خلاص للإيرانيين وإيران
أما باقي الخلق فهم إما ملتحقون بأحد الثلاثة المذكورين، أو تائهون بينهم، كحال كاتب هذه السطور.