استحضرت الانتخابات العامّة في إيطاليا في 25 أيلول المنصرم أشباح الماضي وإشكالاته، إلى جانب أسئلة المستقبل وهواجسه، لا على المستوى الإيطالي فحسب، بل على صعيد أوروبا.
ففي دلالة رمزيّة لافتة شاءت المصادفة التاريخية أن يحين الموعد المرتقب لتولّي جورجيا ميلوني – رئيسة حركة “إخوة إيطاليا” Fratelli d’Italia)) التي تقود الائتلاف اليميني الفائز في الانتخابات – رئاسة الحكومة الإيطالية، بعد 100 عام على “المسيرة نحو روما” التي أوصلت مؤسّس “الحزب الوطني الفاشي” بينيتو موسوليني، “الدوتشي” (Duce)، إلى الحكم في 28 تشرين الأول 1922.
تحولات في أحياء شعبية
وفي دلالة رمزية أخرى يبرز حيّ غارباتيللا (Garbatella) الشعبي في جنوب روما الذي تتحدّر منه ميلوني، وكان يعدّ تاريخياً معقلاً يسارياً، وشهدَ صراعاً قويّاً بين الشيوعيين والفاشيين طوال عقود من القرن العشرين. ثم تحوّل جزء من سكّانه من اليسار إلى اليمين المتطرّف وتبنّوا أفكار ميلوني التي يصفها بعضهم ببنت الشعب. وهذا ما حصل أيضاً في أحياء شعبية أخرى حيث يلقى خطاب السيادة ومناهضة الهجرة والحمائيّة الاقتصادية، فضلاً عن المحافظة الاجتماعية، رواجاً كبيراً. ولعلّ التحوّل السياسي الذي شهدته هذه الأحياء الإيطالية يمثّل دلالة رمزية أخرى على الصعود القويّ لهذا اليمين لا في إيطاليا فحسب، بل في دول أوروبية عدّة مثل فرنسا، هنغاريا، بولندا، إسبانيا، والسويد.
هكذا نشأت ميلوني في مناخ مسيّس إلى أقصى الحدود. وهذا ما يجعل مسيرتها السياسية والتحوّلات التدريجية في خطابها مثار الكثير من الأسئلة عن إمكان وصفها بالفاشيّة بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة قياساً إلى أدبيّات وممارسات نظام موسوليني الذي حكم إيطاليا نحو عقدين من الزمن (1922-1943). أم أن إعلانها المتدرج مع الوقت رفض شطر من هذه الأدبيّات والممارسات يُسقط عنها هذه التهمة أو/ويصنّفها في خانة الفاشيّة الجديدة أو ما بعد الجديدة؟ وهناك أيضاً خطابها الذي يفتقر إلى مضمون سياسي بديل واضح، وكذلك تحالفها مع رئيس الحكومة الأسبق سيلفيو برلسكوني مؤسّس حزب “فورتسا ايطاليا” (Forzia italia) في العام 1994، ومع رئيس حزب الرابطة ماتيو سالفيني. وهذا يدفع إلى تصنيفها في خانة الخط الشعبوي الإيطالي الذي كان برلسكوني أوّل صوره قبل أن يبلغ هذا الخطّ مداه لاحقاً مع سالفيني، ثمّ مع الممثّل الكوميدي بيبي غريللو Beppe Grillo الذي أسّس حركة “النجوم الخمسة” في العام 2009.
ثمّة رهانات إيطالية وأوروبية على أنّ ميلوني، وعلى الرغم من تبنّيها خطاباً متطرّفاً خلال حملتها الانتخابية، ستعتمد في الحكم نهجاً يمينياً محافظاً اجتماعياً “لكن ديموقراطياً وعصرياً”
العودة إلى الأصول
انخرطت ميلوني باكراً جدّاً في العمل السياسي. فهي انتسبت في الخامسة عشرة من عمرها إلى “حركة الشبيبة الفاشيّة” التابعة للحركة الاجتماعية الإيطالية (MSI) التي أسّسها في العام 1946 قياديون رفيعو المستوى في نظام موسوليني. وذلك على الرغم من منع “الحزب الوطني الفاشي” في إيطاليا وتجريم الثناء عليه. وقد تجذّرت هذه الحركة الجديدة في المشهد السياسي الإيطالي بفعل اتّباعها استراتيجية خاصّة عبّرت عنها مقولة أحد قياداتها التاريخيين جورجيو ألميرانتي Giorgio Almirante ومفادها: “لا إنكار ولا إعادة بناء (للفاشية)”، “Non rinnegare, non restaurare”.
وفي مطلع التسعينيّات أعلن جيانفرانكو فيني Gianfranco Fini خليفة ألميرانتي، والذي أسّس في العام 1995 “حزب التحالف الوطني” بعد حلّ “الحركة الاجتماعية الفاشية”، أنّ “ما هزم موسوليني هو السلاح وليس التاريخ”. لكنّ سرديّة فيني الإيجابية تجاه “الدوتشي” لم تمنع برلسكوني من التحالف معه في انتخابات العام 1994 التي فاز فيها هذا التحالف الجديد الذي ضمّ إلى برلسكوني وفيني حزب “رابطة الشمال” الانفصالي الذي تحوّل لاحقاً إلى “حزب الرابطة” بقيادة ماتيو سالفيني. وكتبت “نيويورك تايمز” حينها أنّه “بعد 50 سنة، يصل الفاشيون إلى السلطة في إيطاليا”.
بتحالفه مع الحركة الاجتماعية الإيطالية أسقط اليمين الإيطالي أحد أهمّ المحاذير في المشهد السياسي الإيطالي، إذ جعل وصول ورثة الفاشية إلى الحكم أمراً مقبولاً. وقد كان ذلك نتيجة “عمل ممنهج للتقليل من البعد الإجرامي والعنصري في الفاشية الإيطالية من خلال تضخيم الاختلافات بينها وبين النازية”، وفق المؤرخة ستيفاني برزيوسو Stefanie Prezioso من “جامعة لوزان” السويسرية.
من جهته عدّل فيني، الذي انتُخب مرّات عدّة رئيساً للبرلمان، بطريقة استعراضية مواقفه من نظام موسوليني إلى حدّ وصفه، خلال زيارته القدس في العام 2003، بالشرّ المطلق، وذلك من باب إدانة لاساميّته.
وفي هذا السياق التاريخي بالذات وُلدت حركة “إخوة إيطاليا” في العام 2012، معبّرة عن رغبة مؤسّسيها في القطع مع التحوّل في خطاب فيني و”العودة إلى الأصول”. وليس أدلّ على هذا “الحنين” من تضمين الحركة في علمها شعلة “الحركة الاجتماعية الإيطالية” ذات الألوان الثلاثة: الأخضر، الأبيض والأحمر. وهي الشعلة المضاءة على قبر موسوليني في بريدابيو Predappio.
محاولة تنصّل
على مستوى الخطاب، اعتُبر حزب ميلوني “تأصيلاً” للفاشيّة الإيطالية، رغم سلوكها طريق فيني في محاولتها تدريجاً أخذ مسافة من طروحات نظام “الدوتشي”. فهي كانت قد أعلنت في بداية مسيرتها السياسية في العام 1996 أنّ “موسوليني كان سياسيّاً جيّداً”. وهذا يعني أنّ ما قام به كان لأجل إيطاليا. وبدأت ميلوني تضفي نوعاً من الالتباس على نظرتها للفاشية. فقالت في تصريح لـ”كوريرا ديلاسيرا” (Corriere della Sera) في العام 2006 إنّ لديها “علاقة وثيقة مع الفاشية. وهي فصلٌ من تاريخنا الوطني. وموسوليني ارتكب أخطاء عدة: القوانين العرقية، الدخول في الحرب، ونظامه كان توتاليتارياً. بيد أنّ التاريخ يشهد أنّه أنجز الكثير، لكنّ ذلك لا يبرّئه”.
وفي تشرين الأوّل 2021 أعلنت ميلوني في تصريح لقناة ريتي – 4 الإيطالية ((Rete-4: “ليس هناك مكانٌ للحنين إلى الفاشية ولا العنصرية ولا للاسامية. كانت كلّها على بعد سنوات ضوئية من حمضنا النووي”.
على مستوى الخطاب، اعتُبر حزب ميلوني “تأصيلاً” للفاشيّة الإيطالية، رغم سلوكها طريق فيني في محاولتها تدريجاً أخذ مسافة من طروحات نظام “الدوتشي”
وخلال حملتها الانتخابية بثّت فيديوهات بلغات عدّة حاولت فيها التنصّل من صورتها ما بعد فاشية. وهذا ما بدأ يطرح السؤال: هل يجب النظر إليها قياساً إلى خطاباتها الحماسية أو إلى مضمون الفيديوهات التي قالت في إحداها إنّ “الحرّيّة هي بالنسبة إلينا المكسب الأثمن. ونحن نكيّف حكمنا على التاريخ من خلال بوصلة الحرّية. أصبحت الفاشية منذ عقود عدّة بالنسبة إلى اليمين الإيطالي من الماضي من خلال إدانته الواضحة لإلغاء الديمقراطية وللقوانين المعادية لليهود”؟
ليست فاشيّة؟
يقول الصحافي باولو بيريزي paolo berizi من جريدة لاريبوبليكا الإيطالية (la repubblica)، والذي يخضع لنظام حماية من الشرطة بسبب تلقّيه تهديدات بقتله من مجموعات فاشية: “نستطيع أن نصدّق ميلوني عندما تقول إنّها ليست فاشية. فـ”إخوة إيطاليا” ليست حزباً يمكن تعريفه تقنيّاً على أنّه نيو فاشي، لكنّ الأكيد أنّ هذا الحزب مليء بالفاشيّين، فبين المنضوين فيه نواب وقياديون ومحازبون فاشيون”.
يعتبر بيريزي أنّ “الخطر ليس في عودة الفاشية كما عرفناها في الماضي، لأنّ ذلك مستحيل من الناحية التاريخية. لكنّ الخطر الحقيقي هو في انزلاق الديمقراطية الإيطالية إلى ما يمكن تسميته بالديمقراطية الكاريكاتورية، من خلال إضعاف الديمقراطية وتكثيف النزوع التوتاليتاري في الممارسة السياسية”.
من جهته، يرى المؤرّخ فرانشيسكو فيليبي Francesco fillippi، أنّ “الذين يحنّون إلى النظام الفاشي لا يشكّلون خطراً حقيقياً في إيطاليا لأنّهم قلّة. بيد أنّ هناك فئة أكبر بكثير من هؤلاء لديها علاقة مَرَضية مع ماضينا ويمكن تسميتهم بالفاشيّين اللاواعين، وهم بالملايين. هؤلاء يظنّون أنّ الفاشيّين قاموا خلال العشرين سنة من حكمهم بأمور جيدّة”.
يضيف فيليبي: “نعيش في إيطاليا استعادة لتيمات فاشيّة. نشهد عودة لماضي الفاشية وأشباحه. وهناك قبولٌ متزايد لسياسيّين يتماهون مع هذا الماضي. أن تكون فاشياً الآن ليس أمراً سيّئاً للعمل في السياسة، وذلك كلّه بسبب التخلّي التدريجي عن تأكيد الأفكار المناهضة للفاشيّة”.
ضدّ السياسة؟
ثمّة رهانات إيطالية وأوروبية على أنّ ميلوني، وعلى الرغم من تبنّيها خطاباً متطرّفاً خلال حملتها الانتخابية، ستعتمد في الحكم نهجاً يمينياً محافظاً اجتماعياً “لكن ديموقراطياً وعصرياً”. وهذا ما يحبط مَن يرون فيها وريثة “الدوتشي”. مع العلم أنّ ناخبي ميلوني خليط ممّن تستهويهم الشعلة الفاشية في علم “إخوة إيطاليا” الذين يتبنّون الخطاب السيادي والحمائي المتشكّك في الاتحاد الأوروبي، والمحافظين اجتماعياً ضدّ الإجهاض والمثليّة الجنسية وقوننة تعاطي المخدّرات. وذلك على نحو ما تخلط ميلوني بين كلّ هذه التيمات في خطابها الذي لا يخلو أيضاً من التطرّف تجاه المسلمين في أوروبا. وهي كانت توجّهت إليهم، في خطاب أمام مناصريها بروما في تشرين الأول 2019 بالقول: “إذا كنتم تشعرون بضيق من الصليب فهذا ليس المكان المناسب لكم للعيش فيه. نحن ندافع عن الله والوطن والعائلة، فكّروا بالأمر وقرّروا. نحن نحارب ضدّ أسلمة أوروبا، وليست لدينا أي نيّة للتحوّل إلى قارة إسلامية”.
في السياق عينه يرى توماس شميد من صحيفة “دي فيلت” (Die Welt) الألمانية أنّ “انتصار ميلوني هو نجاحٌ مناهض للسياسة. فهو ليس نجاحاً لفكرة سياسيّة، إذ يستند بشكل أساسي إلى حقيقة أنّ “إخوة إيطاليا” كانت خارج السلطة، وخلفها تجمّع غير الراضين والمحبطين والمرهقين من السياسة”. وهو ما يفسّر تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات من 73 في المئة في 2018 إلى 64 في المئة في 2022. وخلصت دراسة إحصائية لـ “إبسوس- فرنسا” إلى أنّ تشاؤم الإيطاليين دفعهم إلى رفض العملية السياسية منذ بروز “حركة النجوم الخمسة” الشعبوية. وهو ما يحيل إلى السؤال الأساسي الذي يطرحه فوز ميلوني: هل تبتكر نوعاً من البراغماتية السياسيّة أم تجنح أكثر نحو الشعبوية، خصوصاً أنّها محاطة من اليمين واليسار بشعبويّين، سواء برلسكوني أو سالفيني أو غريللو؟
إقرأ أيضاً: الجيل الرابع بعد موسوليني: ميلوني رئيسة وزراء في إيطاليا
إنّ هذا الغموض الذي يحوط بسلوك ميلوني لحظة تولّيها السلطة لا يُدخل إيطاليا وحسب، بل أوروبا كلّها، في حالة طوارئ، بحسب السياسي الفرنسي المتخصّص في الشؤون الأوروبية غيوم إرنر، وذلك بالنظر إلى احتمالات تأثير فوز ميلوني على سياسات الاتحاد الأوروبي إزاء تحدّيات الحرب الروسية على أوكرانيا والأزمة الاقتصادية التي تعصف بدوله، ولا سيّما إيطاليا ثالث قوّة اقتصادية أوروبية. لكنّ الأرجح أنّ ميلوني لن تستطيع رفض العرض الذي يقدّمه الاتحاد لبلادها عبر تخصيصه لها 191 مليار دولار من أصل 750 مليار دولار من ضمن خطّة إعادة التعافي بعد أزمة كوفيد-19. وقد ذكرت صحيفة ريبوبليكا Republica الإيطالية أنّ ثمّة اتفاقاً بين ميلوني ورئيس الحكومة السابق ماريو دراغي يقوم على مواصلة دعم أوكرانيا وإبقاء إيطاليا في “الناتو” ومواصلة سياسته الاقتصادية. أمّا في ما يتعلّق بالموقف من الحرب على روسيا فإنّ موقف ميلوني المؤيّد لـ “الناتو” يقابله في ائتلاف اليمين الإيطالي انحياز واضح من قبل برلسكوني وسالفيني لروسيا، وهو ما يشكّل تهديداً حقيقياً لمستقبل هذا الائتلاف وقد يؤدّي إلى تفكّكه، فاتحاً الباب أمام مستقبل سياسي واقتصادي غامض لإيطاليا. فهل يصدق توقّع أنريكو ليتا(Enrico letta) رئيس الحزب الديمقراطي الإيطالي اليساري الخاسر الذي قال إثر إعلان النتائج: “إنّ أياماً صعبة تنتظرنا”؟