إبّان حرب الجبل كان وليد جنبلاط يتكلّم عن “أقبية الكسليك”. بقيت العبارة الجنبلاطيّة حاضرة في أذهان اللبنانيين بسبب الدور السياسيّ والإنسانيّ الذي لعبته الرهبانيّة خلال الحرب، وبخاصّة جامعتها في الكسليك.
استعادة ملتبسة
منذ بضعة أيّام كتبت الزميلة جوزفين ديب مقالاً في “أساس” بعنوان: “الكسليك مجدّداً… إلى لامركزيّة ماليّة استناداً لاتفاق الطائف”. ارتكز المقال على لقاء أجرته الزميلة مع رئيس جامعة الروح القدس في الكسليك الأب طلال الهاشم الذي عرض مشروع دراسة حول اللامركزية بدأت الجامعة بإعداده منذ سنوات مع مجموعة من الباحثين والمتخصّصين. هدف الدراسة هو المساهمة في استكمال تطبيق الطائف على أسس علميّة وليس ارتجاليّة، كعادة السياسيين في لبنان.
قبل الكلام عن اللامركزيّة، تطرّقت الكاتبة مطوّلاً إلى “النزعات الانفصاليّة” في الحرب اللبنانيّة، حين كان “لجامعة الروح القدس وزن وحضور سياسيّان في نداءات “التمايز”! وكتبت أنّ “الجبهة اللبنانيّة راحت تجتمع في بدايتها في مقرّ جامعة الكسليك…، وتنادي بالفصل بين اللبنانيّين بدل الوصل. ذهبت أبعد من ذلك، إذ جعلت الجغرافيا التي تسيطر عليها “وطناً” سُمّي “لبنان الحر”. وأضافت، نقلاً عن شهادة مارون مشعلاني: “كان السلاح يُنقل بحراً إلى مرفأ الكسليك في جونيه، ويُخزّن في أقبية دير الكسليك التي حوّلتها الرهبانيّة المارونيّة إلى غرف محصّنة تحت الأرض”! وتابعت تقول إنّ “الرهبانيّات في عهد الأباتي شربل قسّيس جمعت المال لشراء السلاح”.
في العام 1996 قام وليد جنبلاط بزيارته الأولى لجامعة الكسليك. كنت هناك. جال في أبنيتها وكلّيّاتها، واكتشف أن لا أقبية في الكسليك
شهادة من الذاكرة
فوجئت بهذا الكلام. عدت بالذاكرة إلى العام 1976 وإلى زياراتي الكسليك حيث كان شقيقي طالباً ترهّب فيها، وإلى جلساتي الطويلة مع الأباتي الراحل شربل القسّيس صيف 1998 (قبل وفاته بسنتين). وعدت أيضاً إلى البيانات الأولى للجبهة اللبنانيّة. وعليه أوضّح بعض النقاط:
1- تأسّست الجبهة اللبنانيّة في الكسليك في 31 كانون الثاني 1976، وكان اسمها “جبهة الحرّيّة والإنسان”، ووقّع بيان تأسيسها كلّ من: شربل القسّيس (بصفته رئيس الرهبانيّة ورئيس المؤتمر الدائم للرهبانيّات)، بيار الجميّل، فؤاد الشمالي، سعيد عقل، شاكر أبو سليمان، شارل مالك (ترتيب الأسماء كما جاء في البيان نفسه). أمّا اجتماعاتها فلم تكن دائماً في الكسليك.
2- لم يكن لدى الجبهة اللبنانيّة “نزعات انفصاليّة” ولا نداءات “تمايز” ولا أيّ مشروع لـ “لبنان الحرّ”. دعت بياناتها إلى سيادة لبنان ووحدته أرضاً وشعباً. جاء في بيان التأسيس (الفقرة 3): “قرّرت الجبهة كشرط أساسيّ لأيّ حلّ، وقف إطلاق النار نهائيّاً، وعودة السيادة إلى أصحابها، وسيطرة السلطات اللبنانيّة، مدنيّة وعسكريّة، سيطرة تامّة على كلّ الأرض اللبنانيّة”. وجاء في “العهد” الذي قرأه الأباتي شربل القسّيس في الاجتماع الأوّل للجبهة بعد التأسيس في دير مار أنطونيوس في بيروت (وكان الرئيس الراحل كميل شمعون قد أصبح عضواً في الجبهة) في 13 شباط 1976 أنّ الجبهة “تعمل وفق المبادئ الآتية:
– التأكيد على وحدة لبنان، تراباً وأمّة…
– استعادة سلطة القانون التي بها وحدها يطمئنّ كلّ لبناني إلى أمنه…
– الجهر بأنّ اللبنانيين وحدهم مقرّرو مصيرهم، وحدهم حافظو سيادتهم ومالكو أرضهم…
3- أعضاء الجبهة اللبنانيّة، كما العديد من المفكّرين المسيحيين، كانوا مع التعدّديّة الثقافيّة والحضاريّة في لبنان. وهي تعدّدية أكّد عليها السينودس الخاص من أجل لبنان الذي حضر أعماله مسلمون ودروز ووُقِّعت وثيقته في لبنان. لا يعني أبداً الكلام عن التعدّديّة “نزعات انفصالية”. إنّما هدفه الاعتراف بها من أجل “تعميق وحدة انتمائنا الوطني”، كما جاء في تصريح للأباتي شربل القسّيس في 28 نيسان 1976. أمّا مشروع الفدرالية الذي طُرح لفترة خلال الحرب، فلم يكن طرح الجبهة اللبنانيّة ولا القوّات اللبنانيّة، إنّما طرح أفراد. وللتذكير، بشير الجميّل كان رئيس الـ 10,452 كلم مربّعاً.
4- الحوار والانفتاح هما نهج في الرهبانيّة من موقعها الوطنيّ التاريخيّ. وقد جسّدهما رهبان الكسليك منذ بدء الأزمة اللبنانيّة حتى اليوم. قبل الحرب اجتمع الأباتي بولس نعمان مع قادة فلسطينيين وكان السلاح الفلسطيني هو الموضوع. وفي العام 2005 حاضر نوّاف الموسوي (مسؤول العلاقات الخارجية في حزب الله حينذاك) من على منبر الكسليك، في إطار مؤتمر كنت قد أعددته حول لبنان ما بعد الانسحاب السوري، وكان سلاح الحزب هو الموضوع.
5- لم يجمع الأباتي القسّيس المال لشراء السلاح. مَن اشترى السلاح للأحزاب في بداية الحرب هما الشيخ بطرس الخوري (وهو شقيق والدة الشيخ بيار الضاهر) وطانيوس سابا (وكان متموّلاً صديقاً للشيخ بيار الجميّل). وكانت بواخر السلاح ترسو في مرفأ الأكوامارينا في منطقة الصفرا، وليس في “مرفأ الكسليك”، وتُوزّع مباشرة على الأحزاب. بالتالي لم تكن الكسليك مخزناً للسلاح ولم يكن فيها غرف محصّنة لا تحت الأرض ولا فوقها. وللتذكير، في العام 1976 استقبلت الكسليك مهجّري بلدة الدامور. حوّل الرهبان غرفهم إلى منازل لإيواء العائلات، وكرّسوا أنفسهم لخدمتهم. وبرز بينهم الأب يوحنّا الخوند الذي لا يزال حتى اليوم “كاهن” أبناء الدامور. وخلال حرب المئة يوم (1978) عادت الرهبانيّة وفتحت أبواب أديرتها، ليس لتخزين الأسلحة والذخائر، إنّما لإيواء الهاربين من جحيم القصف السوري. أمّا دير مار شليطا مقبس في غوسطا، الذي تحوّل مخيّماً للتدريب منذ بداية الحرب، فهو وقفٌ خاص لآل محاسب، ولا علاقة للرهبانيّة به.
إقرأ أيضاً: “الكسليك” مُجدداً … إلى “لامركزية ماليّة” استناداً لاتفاق الطائف؟
في العام 1996 قام وليد جنبلاط بزيارته الأولى لجامعة الكسليك. كنت هناك. جال في أبنيتها وكلّيّاتها، واكتشف أن لا أقبية في الكسليك.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة