يمكن أن يكون اجتماع دار الفتوى عنصراً مؤسّساً لانبثاق سياسي جديد للطائفة السنّيّة. ميزة تلك الطائفة أنّها كانت تاريخياً عصب الدولة وعمادها. وهي تتمتّع بحيويّة اجتماعية وطبقية مختلفة على امتداد الأراضي اللبنانية، تجعلها قادرة على إنتاج رؤية سياسية ومشروع لا ينحصر بشخص، بل يقوم على مشروع وطني يتكامل داخليّاً وخارجيّاً. ومراجعة بسيطة لتاريخ لبنان تبيّن أنّ خروج السُنّة من معادلة الحكم فيه كان يؤسّس لحروب ونزاعات وأزمات وانهيارات. أمّا تلاقيهم مع الآخرين وحضورهم في بناء الرؤية، فيوفران ظروف التفاهم والازدهار اللبناني.
اللقاء على معناه الوطني ليس مقصوراً على ما حصل وأهميته، فهناك حركة في اتجاه البطريركية المارونية، والقوى المسيحية الأخرى، إضافة إلى مشيخة عقل طائفة الموحّدين الدروز، والطائفة الشيعية أيضاً. وفي هذا الإطار يتركّز العمل على عقد لقاء للمرجعيّات الروحية في دار الطائفة الدرزية يضمّ غالبيّة المرجعيات الدينية بما فيها السيّد علي فضل الله.
يأتي اللقاء في ظلّ غياب جسم سياسيّ سنّيّ، وغياب الرموز أو المرجعيّات المدنية. لذا لا بدّ له أن يتطوّر ليصبح شبيهاً بخلوة عرمون التي عقدها المفتي الشهيد حسن خالد، وكانت من نتائجها إنتاج حركيّة سنّيّة سياسية أسّست لاتفاق الطائف في ما بعد
ضروة المسار المتصل
لا يحتاج السُنّة فقط إلى لقاء في دار الفتوى تحت عنوان الاختلاف أو تسجيل المواقف في بيان ختامي. بل عليهم إنتاج مشروع سياسي وطني قائم على تأسيس رؤية وطنية جامعة، كما كان دور السُنّة في الأربعينيّات والخمسينيّات، وحتى خلال الحرب وفي أثناء التحضير للمرحلة التي تلتها ووضع اتفاق الطائف.
ينطلق هذا المسار مجدّداً اليوم. بمظلة حرص سعوديّ واضح المعالم على إعادة إنتاجه انسجاماً مع رؤية “عشرين تلاتين” السعودية التي تتضمّن تطويراً لحركة الوعي وتأسيساً لمسار سياسي – اجتماعي جديد يتكامل مع المسارات الاقتصادية.
في اللقاء الذي عُقد أوائل شهر أيلول الحالي بين مسؤولين سعوديّين وفرنسيّين في العاصمة الفرنسية باريس، حاول الفرنسيون الحديث عن الساحة السنّيّة، لكن الجواب السعودي كان واضحاً: المملكة تولي اهتماماً أساسيّاً بالبيئة السنّيّة. واهتمامها هذا نابع من إصرارها على التكامل الوطني اللبناني. وتُرجم ذلك في لقاء دار الفتوى ثمّ في اللقاء بدارة السفير السعودي، فيما يُستكمل المسار ببعدَيْن سنّيّ ووطنيّ:
– أوّلاً من خلال مبادرة إنشاء جسور للقاء منظّمات شبابية وحزبية.
– ثانياً، من خلال لقاءات سياسية لمجموعة شخصيات هدفها تأسيس مجموعات سياسيّة برؤى جديدة.
– ثالثاً، التركيز على العنوان السياسي الأعمّ، من خلال السعي إلى جمع الحلفاء على موقف واحد. وهذا يتجلّى في الإعداد للقاءات مع القوات اللبنانية، حزب الكتائب، الحزب التقدّمي الاشتراكي، النوّاب المستقلّين، وعدد من نواب الثورة، لتنسيق المواقف بشأن الاستحقاق الرئاسي وما يليه.
– رابعاً، التمسّك باتفاق الطائف والوصول إلى موقف جامع بين المرجعيات الدينية والروحية والسياسية على غرار الموقف الصادر من دار الفتوى.
إحياء السنّيّة السياسية
صحيح أنّ اجتماع دار الفتوى ضمّ نوّاباً من توجّهات سياسية متباينة: بعضهم يوالي حزب الله، وهناك من يحالفه، فيما الغالبيّة على خصومة معه ومع مشروعه لكنّهم يعجزون عن تأسيس مشروع سياسيّ متكامل قادر على جمعهم. لذا لا بدّ لهذا الاجتماع من أن يكون محطّة على طريق إحياء السنّيّة السياسية واستنهاضها. ويمكن أن يتكرّر اللقاء، ولو بحضور عدد أقلّ من النواب الذين يجتمعون على رؤية سياسية منسجمة أو موحّدة داخليّاً وخارجيّاً. ولا بدّ للّقاء أن يكون فاتحة للقاءات متتالية مع مرجعيّات دينية وروحية أخرى ضمن الثوابت اللبنانية، لوضع إطار عامّ وعناوين سياسية للمرحلة المقبلة التي من شأنها إخراج البلاد من أزمتها. وهذا ليس بالضرورة إقحاماً للدين في السياسة، إنّما السلوك بواقعيّة في الظروف القائمة حاليّاً.
لا يحتاج السُنّة فقط إلى لقاء في دار الفتوى تحت عنوان الاختلاف أو تسجيل المواقف في بيان ختامي. بل عليهم إنتاج مشروع سياسي وطني قائم على تأسيس رؤية وطنية جامعة، كما كان دور السُنّة في الأربعينيّات والخمسينيّات
يأتي اللقاء في ظلّ غياب جسم سياسيّ سنّيّ، وغياب الرموز أو المرجعيّات المدنية. لذا لا بدّ له أن يتطوّر ليصبح شبيهاً بخلوة عرمون التي عقدها المفتي الشهيد حسن خالد، وكانت من نتائجها إنتاج حركيّة سنّيّة سياسية أسّست لاتفاق الطائف في ما بعد.
حزب الله وتفتت السُّنّة
يفرض غياب الزعامات السياسية السنّيّة الارتكاز على دور دار الفتوى، لكن حتماً الواقع مختلف جذريّاً عن ثمانينيّات القرن الفائت، لأسباب عدة:
– أوّلها أنّ حزب الله منذ الانتخابات النيابية في العام 2005 يعمل على اختراق الساحة السنّيّة على الصعيد النيابي، وأصبح قابضاً على كتلة نيابية وازنة في صفوف الطائفة السنّيّة في مناطق مختلفة.
– ثانيها الدور الذي تتمتّع به جمعيّة المشاريع الإسلامية “الأحباش” والجماعة الإسلامية ومجموعات أخرى تابعة لحزب الله.
– ثالثها “ظهور” جوّ مدنيّ على الساحة السنّيّة لا يريد الاعتراف بالمرجعيّات الدينية. وهذا يتأثّر بمسار 17 تشرين وما قبلها وما بعدها، فيما الحملة التي شنّها بعض المشايخ على إبراهيم منيمنة لم تؤثّر على الناخبين حتى الآن، لأنّ مَن اقترع له يؤيّد طروحاته.
– رابعها معايشة السُنّة أسوأ الأوضاع الاقتصادية والمعيشية: ترتفع في مناطقهم نسب الفقر والتهجير أو الهجرة القسرية. وهذا يتيح لحزب الله تسجيل المزيد من الاختراقات في مناطقهم، ولا سيّما في صيدا وطرابلس وعكّار، إضافة إلى البقاع، على قاعدة استغلال الوضع لتوزيع مساعدات مختلفة.
– خامسها وقوع حوادث أمنيّة في المناطق السنّيّة في الأيام القليلة الماضية، تشير إلى غياب المرجعيّات، مثلما حدث في صيدا أو طرابلس من خلال عمليات الهجرة، أو ما قد يحدث لاحقاً.
إقرأ أيضاً: دار الفتوى: نُصبت الخيمة بانتظار الفكرة
– سادسها غياب تكوين توجه سياسي، وعدم تشكيل حركة متجدّدة في البيئة السنّيّة. وهذت سمح لحزب الله ولغيره باستغلال الظروف السياسية المتفجّرة في المنطقة: شيطنة السُنّة و”تدعيشهم” وتصوير أنّهم إرهاب وسط غياب كامل لحركة مضادّة، فيما استسلم السُنّة في مرحلة من المراحل لتغييبهم.