انشغل العالم في الأيام القليلة الماضية بقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرض التعبئة الجزئية، الذي أُعطي حجماً أكبر من حجمه الطبيعي.
أمور التعبئة ليست بجديدة وطارئة، وكلّ من يعلم أو يعمل من الخبراء والمستشارين والعسكريين في مجال الأمن والحرب والتكتيك العسكري والميداني يعي ذلك جيّداً.
نوعا التعبئة
ففي الأصل ومنذ فجر التاريخ هنالك نوعان من التعبئة، هما العامّة والجزئيّة، وهي تعبير عمليّ عن نقلٍ للقوّات من حالة السلم إلى وضعيّة الحرب، مقرونٍ باستدعاء الاحتياط وتقييم وإعداد الموارد البشرية وعُدّتها ومخزونها من الأسلحة والعتاد والغذاء.
وتعني “العامّة” منها تحويل القوات المسلّحة الوطنية إلى حالة الحرب أو شبه الحرب وبشكل شامل ولمدّة مفتوحة مناسبة للظرف، في حين أنّ التعبئة الجزئيّة للجيش تعني حشد القوّات المسلّحة استجابة للتهديدات الخارجية للأمن القومي لمدّة محدّدة قابلة للتعديل، وهي تتمّ في ميدان الأعمال الحربية المباشرة فقط، مع ما تحتويه من مناطق عسكرية، واقتصارها على إعلان الطوارئ، ويُنتهج هذا النوع من الإعداد في الحروب المحليّة بين دولتين، وذلك بحسب تقدير كلّ دولة من حيث التنظيم والحشد والتقييم اللوجستي لموقفها وموقعها وحالتها وحاجاتها. لذا قرار التعبئة الجزئية هو قرار تنظيمي وعاديّ جدّاً، وليس أكثر من فقاعة إعلامية روسية لإشغال العالم، وخصوصاً على هامش الأعمال السنوية للجمعية العامّة في الأمم المتحدة، وللتعمية على ما هو أشرس، وهو مفهوم العالم الروسيّ.
أمور التعبئة ليست بجديدة وطارئة، وكلّ من يعلم أو يعمل من الخبراء والمستشارين والعسكريين في مجال الأمن والحرب والتكتيك العسكري والميداني يعي ذلك جيّداً.
شراسة مفهوم العالم الروسيّ
إنّ ما هو أصعب وأهمّ من قرار التعبئة هو مرسوم “العالم الروسيّ” الذي وقّعه قيصر روسيا الجديد، ضمن وثيقة السياسة الإنسانية، والذي يتبنّى مدرسة جديدة في السياسة الخارجية تقوم على استراتيجية “القطب السرابيّ لروسيا”، أي المجال الحيويّ القومي لحركيّة الدبّ الروسي، والذي يركّز على الجماعات الروسية في كلّ دول الجوار، والذي يُعدّ إشارة إلى تكريس مبدأ شرعيّة التدخّل الروسيّ وذريعة للقيام بنشاط وقائي في الدول التي يوجد فيها مواطنون من أصول روسيّة، بقصد حمايتهم ودعمهم حفاظاً على هويّتهم، فيصير هدف الحرب الأساسيّ هو التنظيم الواقعي للفضاء الأوراسي.
هل اقتنع بوتين بسياسة الثعلب هنري كيسنجر الواقعية؟ وهل اتّفق معه على ضرورة ضمّ بعض الأراضي الأوكرانية لإنهاء المشكلة؟ وهل تطابقت السياسة الواقعية مع الفكرة الأوراسية الدوغينيّة؟
تستوجب منّا هذه الأمور توضيح العقيدة البوتينيّة والروسيّة الجديدة، التي تتيح وتسمح بأيّ تحرّك استباقيّ لحماية العالم الروسي وروحيّته. فكلّ شيء مباح من أجل بلوغ هذا الهدف حتى لو:
– بالحرب السلافيّة – السلافيّة للقضاء على المتمرّدين منهم والضالّين وتدجينهم، والمقصود هم الأوكران.
– بالتقاتل الديني بين الأرثوذكس أنفسهم لردّ المضلَّلين منهم إلى صوابهم وكنيستهم.
– بالتعاون بين قوّتين أرثوذكسيّتين (روسيا وبيلاروسيا) لتفكيك قوّة ثالثة هي أوكرانيا، وإعادتها إلى جحرها.
لا يختصر الاقتتال الروسي – الأوكراني العسكري المشهد، بل هو جزء من صراع عقائدي أعمق بين الكاثوليك والأرثوذكس وفق الميزان الإنجيليّ الذي انعكس اقتتالاً بين الإخوة السلاف في سبيل العقيدة والولاء، وهو يشبه نوعاً ما صراع البيت الشيعي في العراق
السراب الأوراسيّ والصهيونيّة
القضم الروسيّ وسلخ بعض مناطق أوكرانيا هما الهدف والغاية والأمر المشروع. أمّا الاستفتاء فهو الذريعة فقط من حيث الشكل. الخطر بالنسبة إلى الأوراسيين ليس في قرب الحلف الأطلسي، وإنّما في استمرار تشتّت وتطاير الفضاء الروسي وخسارته دوله وشعوبه.
هنا يظهر تشابه تقريبي بين الصهيونية والسراب الروسي. فمقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” شبيهة بالمبدأ القائل إنّ “المناطق الأوراسية هي للقوميّة السلافيّة فقط”. فالأرض بالنسبة إليهم موجودة والشعب موجود أيضاً. ولكن لكي تفوز بالأوراسيّة عليك أن تكون سلافيّ القوميّة والعرق، فلا يوجد شيء بالنسبة إلى بوتين اسمه دول أوروبا الشرقية ولا الغربية، فكلّهم تابعون لروسيا وضمن الفضاء الأوراسيّ. وهذا ما ينسحب على الفكر الصهيوني والكيان الإسرائيلي المحتلّ. فلا وجود وفق الصهيونية لكلّ الدول المجاورة لفلسطين المحتلّة. فهي جزء من إسرائيل الكبرى المزعومة. وقال الإسرائيليون إنهم في مفاوضات أوسلو كانوا يشعرون أنهم يتفاوضهم مع أنفسهم لا مع شخص آخر (الفلسطيني). ونجد بوتين يقول الكلام نفسه عن الدمج القوميّ السلافيّ الشامل في فضاءات كبرى موحّدة عبر شبكات متحالفة متعدّدة لخلق مركز جديد للقوّة هو “روسيا الأوراسيّة”.
الصراع العقائديّ
لا يختصر الاقتتال الروسي – الأوكراني العسكري المشهد، بل هو جزء من صراع عقائدي أعمق بين الكاثوليك والأرثوذكس وفق الميزان الإنجيليّ الذي انعكس اقتتالاً بين الإخوة السلاف في سبيل العقيدة والولاء، وهو يشبه نوعاً ما صراع البيت الشيعي في العراق. ويعتبر الفكر الدوغينيّ – وهو “عقل بوتين الباطنيّ” – أنّ أوروبا أرضُ مشاع، وروسيا أرضُ وقف. والوقف ليس كالمشاع الذي يتوجب ردّه وتقويمه. وهذه تماماً حال عقيدة الكيان الإسرائيلي المحتلّ، التي لا تتضمّن حدوداً مثبتة لإسرائيل الكبرى. وكلّ ذلك هو تكريس لمبدأ ونظريّة الحدود المتحرّكة والمتبدّلة. وهو مبدأ قديم ومنتهي الصلاحيّة في القانون الدولي، ونطاقه بؤر التطوّر المستمرّ، حيث تطالب الدول بالأراضي التي حصلت عليها خلال التحارب والحملات العسكرية.
إذاً ظلّت الجغرافيا المصطلح السرّي الدائم في الاستراتيجية الروسية الأوراسيّة، التي تحتوي في خرائطها على أوروبا والبعض من آسيا وإفريقيا. وهذا ما تجلّى في حالة التزاوج بين نطاق دوغين النظريّ الفلسفيّ وسلوك بوتين الميدانيّ العمليّ، حيث لا حدود للمجال الأرضي والروحي لجغرافيا السمات الوطنية، تجسيداً لاستراتيجية محدّدة ندّيّة للعدوّ الذي يطوق روسيا.
إقرأ أيضاً: بوتين ومأزق أوكرانيا: ما العمل؟
أمّا الاستفتاء ليس أكثر من “بروباغاندا”. فغاية الحرب هي سلخ مساحة من أوكرانيا، باعتبارها أرضاً ضالّة بالمنظار الروسي. وضمّها إلى روسيا تصحيحٌ للجغرافيا والخرائط السياسية، وتحقيق للتوازن الاستراتيجي، ولإعادة تنظيم وترتيب المجال القومي الروسي الفاعل. وهذا إضافة إلى إحياءً نظريّة قلب العالم المجدّدة بالنزعة الدوغينية، مع إشكاليّة التناسب بين الروحيّة الفكرية والأثر الميداني لصناعة القرار.
في الجزء الثاني: هدف الأوراسيّة المتجدّدة أو “الدوغينيّة”.