عند إحتدام الأزمات اللبنانية وطنياً تنبعث “رغبات” طائفية تُعلن صراحة ومواربةً أن الحل هو في نوع من انفصال الجماعات الطائفية عن بعضها بذريعة فشل “العيش المُشترك” الذي هو اساس في العقد الاجتماعي الجديد بين المسلمين والمسيحيين وأقره “اتفاق الطائف”. هذه الرغبات ليست منفصلة عن وعي اهلي وجماعاتي ولها جذرها في الحياة السياسية بين اللبنانيين. في الحرب اللبنانية تُرجمت هذه النزعات الإنفصالية فكان للدروز كانتونهم تحت رعاية “الإدارة المدنية”. مثلهم مثل الشيعة والموارنة وامتلأ الوطن حواجز عبور بين المناطق. آنذاك أيضاً كان لجامعة روح القدس الكسليك وزن وحضور سياسيين في نداءات “التمايز”.
رئيس جامعة الروح القدس في الكسليك الأب طلال الهاشم: أبواب جامعة الروح القدس في الكسليك مفتوحة لكلّ الأفكار النيّرة والمشاريع المنتجة التي يمكن أن تساهم في دفع عجلة النهوض بالوطن
لبنان بين ” الفصل” و”الوصل”
كان الأمر كذلك في مطلع السبعينات. وقبله في الخمسينات مع “ثورة 1958”. حصل هذا في اواخر الستينات مع “اتفاق القاهرة” الذي يُفترض انه كان لتنظيم وجود السلاح الفلسطيني لكن السياقات جعلت من هذا السلاح حاكماً للبنان وعليه. ومع هزيمة عبد الناصر حصل انقلاب في لبنان أداره “الحلف (كميل شمعون، بيار الجميل، وريمون إده)” الذي سيصبح لاحقاً “الجبهة اللبنانية” بمواجهة اليسار والقوى الإسلامية الفلسطينية.
الجبهة اللبنانية راحت تجتمع في بدايتها في مقر جامعة الكسليك العريقة علمياً واكاديمياً، وتنادي بـ “الفصل” بين اللبنانيين بدلاً من “الوصل”. ذهبت أبعد من ذلك، إذ جعلت من الجغرافيا التي تسيطر عليها “وطناً” سُمي “لبنان الحر”.
دور جامعة الكسليك في الحرب
يعترف مارون مشعلاني، وهو أحد قادة الحرب في الجبهة اللبنانية، بأن “قرار تسليح الميليشيات المسيحية اتُخذ بسرية تامة، وكان السلاح يُنقل بحراً إلى مرفأ الكسليك في جونية، ويُخزّن في أقبية دير الكسليك التي حوّلتها الرهبانية المارونية إلى غرف محصّنة تحت الأرض” (أنظر: كبريال الجميّل، مارون مشعلاني: صليب الحرب، ص 28). ويضيف مشعلاني أن التدريب على السلاح كان يتم في دير مار شليطا في بلدة غوسطا (المصدر السابق نفسه، ص 24)؛ فالرهبانيات في عهد الأباتي شربل قسيس جمعت المال لشراء السلاح، وحوّلت أديرة العبادة إلى مستودعات أسلحة. وهذا حصل مثيله عند المسلمين فكانت منابر المساجد والحسينيات ساحات تعبئة عسكرية، لكنها كانت تغضن دعوات الإنفصال وشيطنة الآخر.
مع بداية السلم الاهلي البارد إنما المسلح مطلع التسعينات خبتت هذه النزعات الإنفصالية بعض الشيء لكنها لم تذوي نهائياً ، إذ بقي لها اساس متين عبر عن ذاته في تصريحات متفرقة واكبها جماعات نادت بالفيدرالية وأخرى باللامركزية. كان الباعث على ذلك بداية “أسلوب العيش” و”تمايزه” بين المناطق. هذا كله لم يكن مقطوع الصلة عن “حلف أقليات” تعددت اطرافه واحواله . فحيناً قادته إسرائيل ولاقاها بعضٌ من اللبنانيين، وأحياناً قادته سوريا وكان لها حلفائها من اللبنانيين أيضاً. كانت دائرة هذا الحلف تغوي الطوائف السياسية للمسيحيين والدروز والشيعة.
“سان كلو” بفرنسا بعث “غواية” المثالثة
في مؤتمر ـ لقاء نظمته فرنسا بـ “سان كلو” لممثلين عن القوى السياسية اللبنانية عام 2007 واثر حرب تموز 2006 انبعثت “كلمة سحرية” تغوي الطوائف التي تُنسب نفسها إلى “الأقليات” فكانت “مفردة المثالثة” بين المسيحيين والشيعة والسُنة. “خلاصة” ما دار من بحث آنذاك راح يخبو وينبعث على إيقاع التوترات اللبنانية المرتبطة بخارج ما. ومنذ أكثر من ثلاثة اعوام بدأت مصطلحات كـ “المؤتمر التأسيسي” و “التعديل الدستوري” وغيرها تدخل أدبيّات القوى السياسية، وتحديداً لدى “حزب الله” وحلفائه، وكذلك عند قوى وتكتلات مسيحية أبرزها “التيار الوطني الحر” الذي أغرق الحياة السياسية بعبارات “التعديلات الدستورية في محاولة لاسترجاع صلاحيات رئيس الجمهورية التي تبدلت بعد اتفاق الطائف وصار جزء منها “لدى مجلس الوزراء مُجتمعاً”.
حاول الحزب مراعاة الهواجس التي تعتري الطائفتين السنّيّة والمسيحية في كلّ مرّة يتحدّث فيها أمينه العامّ عن “مؤتمر تأسيسيّ” للبنان، فعمد إلى سحب المصطلح من الاستخدام مراعاة للوضع العامّ.لكن انكفاء الحزب عن المجاهرة برغبته بمؤتمر تأسيسي لا يعني تراجعه عن قناعته، بل هو يفضّل أن لا يكون مبادراً إلى ذلك.
أما المسيحيون فيدركون جيّداً أنّ أيّ مؤتمر تأسيسي سيكون على حسابهم. ولذلك تكاد القوى المسيحية على اختلافها تتّفق على أنّ اللامركزية الإدارية الموسّعة قد تكون آخر الحلول التي تحافظ من جهة على وحدة البلاد وتحافظ من جهة أخرى على ما تبقّى فيها من مسيحيّين. وما يزال المسيحيون حتى هذا التاريخ يرفضون الاعتراف بالطائف مفضّلين تسميته الدستور.
رئيس جامعة الروح القدس في الكسليك الأب طلال الهاشم: الأزمة اللبنانية الأخيرة في مدلولاتها الاقتصادية والأمنيّة والتعليمية والاستشفائية والمعيشية اليومية، أظهرت بشكل فاضح أنّ النظام المركزي لم يعد يصلح لإدارة البلاد
“الفيدرالية” و”اللامركزية” خلاص طوائف
إدعاءات “الميزة” و “التمييّز” عند الطوائف السياسية اعاد الاعتبار لنقاش “الفيدرالية” بنسبة ما وللـ “اللامركزية” بنسبة أعلى بكثير. وتكثف هذا العنوان في اوساط الكتل الأهلية والطائفية دفع بجامعة الروح القدس في الكسليك للإستعانة بخبرات سياسية اقتصادية اجتماعية تربوية ودرست قانون اللامركزية الإدارية الموسّعة، وقد انتهت من صياغته، وستدعو في مطلع العام المقبل الأحزاب المسيحية إلى الاجتماع لمناقشة القانون، وسيلي ذلك دعوة القوى الوطنية الأخرى إلى نقاش جدّيّ للقانون عسى أن يكون حلّاً لأزمة الحكم في لبنان.
“الكسليك”: لامركزية استناداً إلى الطائف
يقول رئيس جامعة الروح القدس في الكسليك الأب طلال الهاشم لموقع “أساس” إنّ “الأزمة اللبنانية الأخيرة في مدلولاتها الاقتصادية والأمنيّة والتعليمية والاستشفائية والمعيشية اليومية، أظهرت بشكل فاضح أنّ النظام المركزي لم يعد يصلح لإدارة البلاد.
“كانت جامعة الروح القدس، استناداً إلى اتفاق الطائف، قد بدأت منذ فترة بدراسة موضوعية وعملانية لإمكانية تطبيق نظام اللامركزية بشقّيها الإداري والماليّ، علماً أنّ مشاريع قوانين اللامركزية التي طُرحت سابقاً يتشابك في الكثير منها منطق النظام اللاحصري مع منطق النظام اللامركزي. فكان لا بدّ من إعادة صياغة نظام لامركزيّ متكامل يتلاءم مع الأنظمة المعتمَدة عالميّاً مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيّات اللبنانية المعقّدة. من خلال الدراسة التي قمنا بها توصّلنا إلى بعض الخلاصات المهمّة التالية:
– توسيع الرقعة الجغرافية للبلديّات عبر دمج البلديّات الصغيرة مع المحافظة على نسبيّة التمثيل الانتخابي للقرى والدساكر والأحياء حسب العرف القائم ديمغرافياً وطائفياً.
– إنشاء ما يسمّى بالمناطق الإدارية التي تتكوّن من تجمّع للبلديات على أن تشمل مساحتها الأقضية الحاليّة أو تتخطّاها جغرافيّاً.
– انتخاب مجالس البلديّات ومجالس المناطق الإدارية من الشعب مباشرة على أساس نسبيّ ولوائح مقفلة.
– إلغاء وظائف المحافظ والقائمقام والمختار وكلّ المجالس المتعلّقة بالنظام اللاحصري أو المركزي في إدارة المناطق اللامركزية.
– إعطاء الصلاحيّات الماليّة والإدارية الفعليّة للبلديّات والمناطق لتمكينها من القيام بالمشاريع اليومية بمعزل عن أيّ أزمات سياسية مركزية.
– إنشاء ديوان محاسبة على مستوى المناطق الإدارية لتأمين شروط الرقابة الماليّة المسبقة وإعطاء الضمانات للإدارة المركزية بغية تأمين شروط الرقابة الماليّة اللاحقة.
– يتميّز المشروع الجديد بـ “التوسّع في النظام المالي اللامركزي، واقتراح توزيع جديد للضرائب المجباة بحيث تتوزّع ما بين المناطق اللامركزية والحكومة المركزية”.
إقرأ أيضاً: باسيل في “لبنان القوي”: أنا صاحب القرار..
الهاشم يتحفظ عن مشروع أوسع
هذه النقاط هي غيض من فيض طرحها الأب الهاشم مع “اساس”. وأشار إلى أنّ فريق العمل الجامعي قام بنصّ المشروع على أساس موادّ وبنود قانونية، وهو ما يسهّل عمل المشرّع في حال تمّت دراسة المشروع في المجلس النيابي.
لكن الأب طلال الهاشم تحفظ عن الدخول في تفاصيل القانون أكثر لأنّ “الجامعة ستعلن عنه قريباً ضمن مؤتمر وطنيّ للحوار بشكل علمي وموضوعي”، وأكّد أنّ أبواب جامعة الروح القدس في الكسليك مفتوحة لكلّ الأفكار النيّرة والمشاريع المنتجة التي يمكن أن تساهم في دفع عجلة النهوض بالوطن وفي خلق مناخ سليم يسمح لجميع أبنائه بالعيش معاً من دون خوف أو مكابرة.