للمرّة الأولى في تاريخ القضاء يلتقي أكثر من 400 قاضٍ من أصل نحو 600 على قرار اعتكاف لم تنجح جميع المحاولات حتى الآن في فرملته أو التخفيف من وطأته على عمل المحامين والأجهزة الأمنيّة والموقوفين والمتقاضين… والأهمّ على السلطة السياسية المتخاذلة التي أوصلت القضاة إلى “توسل” رواتبهم وصفيحة البنزين والمازوت لإنارة مكاتبهم.
الاعتكاف مستمر
في الجمعيّة العمومية التي عُقدت يوم الجمعة لم يتمكّن الحاضرون من أخذ القرار بتعليق قرار الاعتكاف، فتأجّل الحسم إلى الأسبوع الحالي. برزت في الاجتماع أكثر من وجهة نظر إلى حدّ التصادم من دون أن يتمكّن رئيس مجلس القضاء الأعلى من إقناع الأكثريّة باستئناف العمل القضائي المرتبط بالأمور التي لا تحتمل إضرابات وتأجيل كالموقوفين وأمور النفقة وإباحة السفر وتوقيع إخلاءات السبيل.
وحتى يحدّد القاضي عبود موعد الاجتماع المقبل تجري حالياً عملية تصويت عبر “واتساب” القضاة (يضمّ 420 قاضي) في شأن الاستمرار في الاعتكاف أو تعليقه. حتى الآن “يطبش” التصويت لتثبيت قرار الاعتكاف من دون أي استثناءات حتى الآمور الملحّة.
مصدر في القضاء العسكري لـ “أساس”: العامل الوحيد الذي دفعنا إلى استئناف عملنا، يتعلق بالبتّ بطلبات الموقوفين، وهو عامل إنساني كون الاعتكاف راكم من منسوب الظلم بحق هؤلاء
“العامل الإنساني” يحفز المحكمة العسكرية
بخلاف هذه المناخات استأنف قضاة المحكمة العسكرية مهامهم بعد نحو شهر ونصف من الإضراب. وبخلاف ما يتمّ الترويج له، تحديداً من قبل بعض القضاة، بأنّ العودة عن قرار الاعتكاف أملته “تسوية” أوضاعهم يقول مصدر في القضاء العسكري لـ “أساس” أنّ “العامل الوحيد الذي دفعنا إلى استئناف عملنا، يتعلق بالبتّ بطلبات الموقوفين، وهو عامل إنساني كون الاعتكاف راكم من منسوب الظلم بحق هؤلاء”.
يضيف المصدر: “القضاء المدني وحتى محاكم الجزاء بعيدة نسبياً عن النيابات العامة وليست على تماس مباشر مع الموقوفين. فهل يمكن مثلاً عدم التوقيع على إشعار الترك وتأجيله لأشهر بحق موقوفين أخلى قاضي التحقيق سبيلهم، كما أنّ هناك موقوفين بجنح يجب إطلاق سراحهم. هذا ما لا نحمله على ضميرنا. وقد وصلنا قبل أسابيع قليلة إلى تسوية تشمل فقط البتّ بأمور الموقوفين”، مشيراً إلى أنّ هذا “القرار وضعنا في موقع المتّهمين بأنّنا فتحنا على حسابنا وتمّت تسوية أوضاعنا وهذا أمر غير صحيح، ووصل الأمر إلى حدّ مهاجمتنا مباشرة على غروب القضاة. مع العلم أنّنا كنا نستفيد من عشر قسائم بنزين، وفق مرسوم العام 2017، وقد انخفض العدد إلى ثمانية، وحتى رواتبنا انخفضت من دون أن نعلم سبب ذلك”.
قضاةٌ فقدوا الامل والوزير مُقصر
في السياق نفسه، يقول أحد القضاة البارزين المؤيّدين للاعتكاف الشامل لـ “أساس”: “نحن لسنا في حالة اعتكاف، بكلّ بساطة نحن فقدنا كلّ الإمكانيات للوصول إلى مراكز عملنا ولم يعد بإمكاننا التصرّف نيابة عن الدولة في توفير الكهرباء والماء والمستلزمات المكتبية الضرورية والإنترنت، فيما تحوّلت رواتبنا إلى ورق لا قيمة له. تراجعنا الآن سيخسّرنا كلّ شيء”.
يضيف القاضي: “مش شغلتنا نقول للسلطة السياسية ماذا يجب أن تفعل كي توفّر رواتب وبدلات نقل لائقة للقضاة تقيهم شرّ العوز. في ظلّ القانون الحالي، وإلى حين إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، وزير العدل كسلطة سياسية هو المخوّل مع الحكومة ووزير المال إيجاد حلّ لهذه الكارثة، وحتى الآن أثبت الوزير هنري خوري قصوراً هائلاً قي لعب الدور المطلوب منه لإنهاء هذه المهزلة. وحين قرّر أن يتحرّك ابتكر مخرجاً في جريمة المرفأ اسمه “القاضي المنتدب” الذي يرفض معظم القضاة القيام بمهمّته لأنّها “تحرقهم” وتضعهم في موقع مشبوه قد يُشكّل نقطة سوداء في سجلّهم بسبب عدم قانونيّة الخطوة”.
في اجتماع يوم الجمعة بدا لافتاً انخفاض عدد المشاركين مقارنة بالجمعية العمومية التي عُقدت في آب الماضي وضمّت نحو 400 قاضٍ، وهو ما يدلّ على الإصرار على التصعيد.
رئيس نادي قضاة لبنان القاضي فيصل مكّي لـ “أساس”: طلب تحويل الرواتب على أساس 8 آلاف لا يؤدّي إلى إنهاء الاعتكاف لأنّه غير مضمون النتائج، ولأنّ الاعتكاف له مبرّراته التي لا تزال قائمة
“انتفاضة” القضاة تعاكس مجلس القضاء
يُذكر أنّ “انتفاضة” القضاة مستمرّة منذ نحو شهرين، وأنّ التمسّك بقرار الاعتكاف جاء خلافاً لرغبة مجلس القضاء الأعلى وتزامن مع توقيع طلب من 630 قاضياً من القضاء العدلي والإداري والمالي سيُرفع رسميّاً إلى مصرف لبنان لاحتساب رواتب القضاة على سعر 8 آلاف ليرة للدولار الواحد (تحوّل رواتب القضاة إلى الدولار على سعر 1,500 ليرة، ثمّ مجدّداً إلى الليرة على سعر 8 آلاف).
ولم يكن القاضي عبود ومدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات من عداد الموقّعين على الطلب الذي اعتُمدت آليّته مرّة واحدة فقط ثمّ جُمّدت.
أتت هذه العريضة من ضمن الحلول التي طرحتها اللجنة القضائية المكلّفة إيجاد الحلول الماديّة الممكنة. ويرى كثيرون من القضاة أنّها لا توفّر الحلّ المستدام المطلوب، وأن لا ضمانات أصلاً عن أنّ مصرف لبنان سيلتزم بها، فيما يُشكّك قضاة في قانونيّتها وتحوّلها إلى أداة للابتزاز، ولا سيّما أنّ الموقّع الأوّل على “رواتب الـ 8 آلاف ليرة” هو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، و”المُلاحَق” قضائياً.
اعتكاف القضاة مرتبط بـ “حقوق مُستدامة”
يؤكّد رئيس نادي قضاة لبنان القاضي فيصل مكّي لـ “أساس” أنّ “طلب تحويل الرواتب على أساس 8 آلاف لا يؤدّي إلى إنهاء الاعتكاف لأنّه غير مضمون النتائج، ولأنّ الاعتكاف له مبرّراته التي لا تزال قائمة. بالنسبة إلينا لا بدّ من توفير الحدّ الأدنى من العيش الكريم واللائق للقاضي وتحسين الأوضاع داخل العدليّات التي تحوّلت إلى ما يشبه الصحراء المتروكة. فالقاضي في السابق كان يدفع من جيبه ليحسّن ظروف قيامه بعمله، وهذا الأمر لم يعد ممكناً الآن. وهناك حاجة ملحّة إلى تدعيم صندوق تعاضد القضاة لجهة الطبابة والتعليم”.
إلى ذلك تفيد المعلومات أنّ التمسّك بقرار الاعتكاف أتى على خلفيّة رفض القضاة للحلّ الترقيعي الذي قُدّم لهم من خلال توقيع وزير المال يوسف خليل على نقل اعتماد من احتياطي الموازنة بقيمة 35 مليار ليرة إلى صندوق تعاضد القضاة، معتبرين أنّ “هذا المبلغ يكفي لشهرين، أي حتى 31 تشرين الأول تاريخ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، ووقتئذٍ سيصبح من الصعب توقيع مرسوم مماثل في ظلّ الفراغ الرئاسي”.
في السياق نفسه برز المؤتمر الصحافي الأوّل من نوعه الذي عقده نادي قضاة لبنان قبل يوم واحد من انعقاد الجمعية العمومية، وبدا بمنزلة المحفّز للقضاة على عدم القبول بالحلول الترقيعية.
عمليّاً، كانت المرّة الأولى في تاريخ القضاء التي يقف فيها قضاة أمام إعلاميّين ويردّون على أسئلتهم من دون سقف. وقد كشف “النادي” عن معاناة القضاة وحجم الكوارث والإهمال وفقدان الأساسيّات داخل قصور العدل التي اجتاحتها بعض الحيوانات كالقطط والجرذان والأفاعي والمواشي، إضافة إلى غياب أدنى مقوّمات النظافة والصيانة وانقطاع المياه الدائم.
“نادي القضاة” جزء من اكثرية
يقول مكي: “من المهمّ التوضيح أنّ نادي قضاة لبنان ليس هو الجهة التي فرضت الاعتكاف، بل تمّ تبنّيه من أكثريّة القضاة، و”النادي” جزء من هذه الأكثريّة. وبالتالي القرار بإنهاء الاعتكاف ليس لدى “النادي”، بل لدى الأكثريّة التي فرضت حصوله، وهذا الأمر لن يتمّ ما لم تتحقّق حقوق القاضي البديهية”.
إقرأ أيضاً: اعتكاف القضاة ونقص المازوت: الأمن يتدهور
في السياق نفسه تفيد معلومات أنّ رئيس مجلس القضاء الأعلى عقد اجتماعات عدّة مع ممثّلي مؤسّسات دولية للحصول على دعم ماليّ وعينيّ للقضاة، ويقول مطّلعون إنّ “طلب الدعم يتمّ من مؤسّسات دولية كبرى ومنظّمات، كجامعة الدول العربية مثلاً والاتحاد الأوروبي، وليس من دول”.