لا تريد واشنطن أن ترى الألوان الحقيقية للنظام الإيراني. كلّ المواقف الصادرة حتى الآن من فريق الرئيس الاميركي جو بايدن، لا ترتقي إلى مستوى الانتفاضة الوطنية الهائلة في إيران والتي فجّرها مقتل الشابّة الإيرانية مهاسا أميني على يد “شرطة الأخلاق” بسبب إظهارها من شعر رأسها أكثر ممّا تحتمل أعصاب نظام ولاية الفقيه!
عام 2009، أشاح الرئيس الأسبق باراك أوباما بنظره عن الثورة الخضراء، التي انطلقت من طهران، وتحديداً من شمال العاصمة حيث الطبقة الوسطى المتعلّمة وذات التوجّهات الغربية، احتجاجاً على ما عدّته الجموع يومها تزويراً لنتائج الانتخابات الرئاسية، وترئيس محمود أحمدي نجاد على حساب مير حسين موسوي، الذي لا يزال تحت الإقامة الجبرية إلى اليوم.
لا تبرّر جريمة جريمة أخرى. ولكنّ الفارق الموضوعي بين سلوك الحكومتين السعودية والإيرانية حيال الجريمتين، وتباين ردّ الفعل الأميركي وتفاعله مع الجريمتين وما بعدهما، لا يحتملان التغاضي
كانت حسابات أوباما تنطلق من أولويّة إنجاز الاتفاق النووي مع إيران، وعدم التشويش على “القناة الخلفيّة” المفتوحة بين واشنطن وطهران عبر سلطنة عُمان. تذرّع أوباما بأنّ الانحياز إلى جانب الإيرانيين سيسهّل على النظام وسمهم بالخونة ووسم الثورة بأنّها من فعل الخارج. بيد أنّ هذه الاعتبارات لم تخطر في ذهنه حين انحاز منذ الأيام الأولى للثورة المصريّة ضدّ نظام الرئيس الراحل حسني مبارك مطالباً إيّاه بالتنحّي “الآن”!.
اليوم لا تزال أولويّة إدارة بايدن إحياء الاتّفاق النووي الإيراني، بعد كلّ الإشارات الآتية من إيران أنّها غير مهتمّة بالاتّفاق، بل بالتفاوض نفسه كآليّة شراء وقت لتحقيق هدفين: شراء الوقت لمزيد من تطوير البرنامج النووي، ولا سيّما أبعاده العسكرية، واستخدام التصلّب في المفاوضات لتعويم الشعبيّة في الداخل، وصيانة السمعة الثوريّة للنظام.
في الحقيقة، يصعب كثيراً عدم التوقّف عند النفاق الأميركي حين يتعلّق الأمر بمقارنة سلوك واشنطن تجاه إيران، مع سلوكها تجاه مصر ودول الخليج، وتحديداً السعودية!
لقد وصل الأمر بعدد من أعضاء الكونغرس الأميركي، العمل على ترشيح الناشطة السعودية لجين الهذلول، لجائزة نوبل للسلام، في خطوة لا يمكن فصلها عن سياقات الصراع مع المملكة ومع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان شخصيّاً. والمفارقة أنّ خلاف الهذلول مع دولتها لا يتعلّق بمبدأ قيادة المرأة للسيّارة الذي التزم الأمير محمد بتحقيقه، بل بأنّها أرادت أن تستبق بدء تنفيذ القرار، كنوع من التحدّي للتحدّي فقط. لا تقارن قضيّة سجن الهذلول، ثمّ إطلاق سراحها، بتحطيم رأس فتاة إيرانية، وقتلها، لأنّ حجابها لا يطابق كلّ مواصفات الحجاب الذي تفرضه ماكينة الوصاية الذكورية على المرأة داخل نظام خامنئي. ولكن تكفي المقارنة بين مستوى التغطية والبيانات والتقارير الصادرة في قضيّة الهذلول ومقارنتها مع الموقف الأميركي من قضية مهاسا أميني للوقوف على حجم النفاق الأميركي!
في نيويورك، مثلاً، استُقبل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بحماية الأمن الأميركي، وفُتحت له كلّ أبواب اللقاءات، مع النخب الأميركية، وتناقلت وسائل الإعلام صور المصافحات بينه وبين عدد من زعماء العالم، ولا سيّما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في الوقت الذي كانت فيه أجهزة أمن رئيسي تنفّذ حمّام دم بحقّ الإيرانيين! لنقارن ذلك مع “دراما” المصافحة التي انشغلت بها كبريات الصحف الأميركية والتغطيات الإعلامية بين الأمير محمد بن سلمان وبايدن، حين زار الأخير السعودية، والمعاني التي أُسبغت على تلك اللحظة التلفزيونية أو استبقتها..
سبقت وصول رئيسي إلى نيوريوك بأسابيع فضيحة محاولة قتل الكاتب سلمان رشدي في المدينة نفسها على يد شابّ، تشير كلّ الأدلّة الظرفية إلى أنّ الحرس الثوري جنّده عبر حزب الله في لبنان.. نفت إيران مسؤوليّتها عن محاولة الاغتيال، لكنّها احتفت بها بكلّ صورة ممكنة، ورفعت الشابّ المنفّذ إلى مصاف كبار المقاومين للغطرسة الأميركية والمنتصرين لكرامة الإسلام ولإشعاع الفتوى الخمينية بحقّ رشدي!! أُميتت قضيّة سلمان رشدي، ولم تنشغل أجهزة المخابرات الأميركية بتقدير آليّة اتّخاذ القرار في الجريمة ومعاني التراتبية داخل النظام الإيراني، وصِلة ذلك بالشابّ المنفّذ، في حين لا تزال تطفو على السطح جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، كأنّها كلّ ماضي السعودية وحاضرها ومستقبلها، واللحظة التي بها فقط تُقاس العلاقة معها!!
لا تبرّر جريمة جريمة أخرى. ولكنّ الفارق الموضوعي بين سلوك الحكومتين السعودية والإيرانية حيال الجريمتين، وتباين ردّ الفعل الأميركي وتفاعله مع الجريمتين وما بعدهما، لا يحتملان التغاضي. فالفارق كبير بين من جرَّم قتل خاشقجي وحاكَم المسؤولين عن الجريمة، أيّاً يكن تقييم البعض لهذه المحاكمة، وبين من يصرّ على شرعيّة قتل سلمان رشدي، بل يعتبر أنّ جريمة القتل هنا نموذج لجرائم مقبلة.. ثقافة تجرِّم الجريمة هي شأن يختلف تماماً عن ثقافة تحتفي بالجريمة وترجو الإكثار منها، وهذا ما لا يدخل في حسابات واشنطن بشكل يثير الريبة والغثيان..
من المفارقات أخيراً، أن تلعب المملكة العربية السعودية والأمير محمد بن سلمان شخصيّاً، دوراً رئيسيّاً في إطلاق سراح أسرى أميركيين لدى موسكو، كانوا يشاركون في الحرب إلى جانب أوكرانيا، في الوقت الذي لا تزال تحتفظ فيه إيران برهائن أميركيين تستخدمهم دروعاً بشرية في لعبة الحصول على فديات ماليّة من واشنطن. محرّر الرهائن ومحتجِز الرهائن، ليسا سيَّيْن، وهما ليسا كذلك في اعتبارات واشنطن التي تبدو أكثر تسامحاً مع المحتجِز وأكثر تشدّداً مع حليف موضوعي وتاريخي هو السعودية..
إقرأ أيضاً: ثورة الحجاب وربيع طهران
مئات الأمثلة يمكن سوقها من طينة المثالات الثلاثة التي أوردتها، والتي تتقاطع كلّها عند مقاومة أميركية شرسة ترفض رؤية نظام إيران بألوانه الحقيقية، فيما تخترع ألواناً وهمية للسعودية وحلفائها وتصرّ على أنّ ما تحبّ أن تراه هو ما تراه فعلاً..
بعد 11 أيلول 2001 شاع سؤال أميركي بسيط وخطير مختصره: لماذا يكرهوننا؟ لنا أن نسأل نحن اليوم.. “لماذا تكرهوننا؟”!.