تغلب لغة التفاوض والتهدئة على لغة التصعيد هذه الأيام في لبنان، في شأن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وتشكيل الحكومة وحول الاستحقاق الرئاسي، من دون استبعاد لهجة التصعيد والتهديد والتحريض التي يقتضيها التفاوض أحياناً. لكن هناك من يعتقد أن هذه اللهجة قد لا تنسحب على موضوع اختيار رئيس الجمهورية العتيد، الذي له حسابات مختلفة، كونه سيحدد الوجهة التي سيسلكها لبنان على مدى ست سنوات.
في انتظار بلورة نتائج التفاوض، وآخر المستجدات الآتية من نيويورك حول ما أنجزه الوسيط الأميركي آيموس هوكستين حول الحدود البحرية، يبدو أن وصول المسار التفاوضي إلى خط النهاية بات مسألة وقت وتتحكم به ظروف مسار الانتخابات الإسرائيلية المقبلة مطلع تشرين الثاني. والركون إلى هذا الاستنتاج ما زال خاضعاً للاختبار مع عدم استبعاد أي مفاجآت، على رغم الضغوط الأميركية على حكومة يائير لابيد من أجل تمرير الترسيم من دون إخضاعه لتجاذبات الحملة الانتخابية في مواجهة بنيامين نتانياهو.
بين التفاوض على الترسيم والتوافق على الرئيس
الأمين العام لـ”حزب الله”السيد حسن نصر الله قال: “نحن قوم نصبر ونعطي الفرصة للمفاوضات ان تؤدي إلى نتيجة”… هذا في شأن اتفاق الترسيم، فكيف سينعكس ذلك على مبدأ “التوافق” على رئيس الجمهورية، الذي تحدث عنه، وهل أن التوافق ممكنٌ في شأن الرئاسة اللبنانية، امتداداً لاحتمالات التوافق على الترسيم البحري؟ نصر الله دعا في هذا الخصوص أيضاً إلى “لقاءات للحوار بعيدا عن التحدي وعن الفيتوات التي تطلق مسبقا”…. لكنه اشترط رئيساً “يحظى بأوسع قاعدة ممكنة سياسية ونيابية وشعبية ليتمكن من القيام بدوره القانوني والدستوري”.
التسوية التوافقية تواجه صعوبات بسبب الاصطفاف الدولي المتصاعد الذي تنحاز فيه إيران إلى روسيا في مواجهة الغرب، قياساً إلى الظروف التي رافقت التسوية
فالاحتياط لصعوبة التفاوض على الرئيس المقبل يوجب الاستدراك بشرط كهذا من قبل نصر الله، وهو شرط مطاط في وقت تطرح أوساط سياسية السؤال عما إذا كان التوافق على الرئاسة اللبنانية ممكنٌ في ظل التعقيدات الدولية المتسارعة والمتصلة بالصراع الروسي الغربي بفعل الحرب في أوكرانيا.
الاصطفاف الدولي وصعوبة التسوية الرئاسية
التسوية التوافقية في رأي هذه الأوساط تواجه صعوبات بسبب الاصطفاف الدولي المتصاعد الذي تنحاز فيه إيران إلى روسيا في مواجهة الغرب، قياساً إلى الظروف التي رافقت التسوية على انتخاب الرئيس ميشال عون في العام 2016 حين تساهلت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مع طهران في ظل المناخ الذي نشأ عن الاتفاق على النووي عام 2015 قبل انتخابه ببضعة أشهر. يومها جرى تقاطع بين واشنطن وطهران، وباتت شائعة الواقعة التي تقول إن مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيل والذي كان سفيراً لبلاده في لبنان هيل هو الذي نصح رئيس تيار “المستقبل” الرئيس سعد الحريري في حينها بالموافقة على دعم ترشيح عون قائلاً إن “لا مانع” في وصوله، بينما كانت نصائح زملائه في واشنطن “انتخبوا أي رئيس” للانتهاء من الفراغ.
يقول أحد النواب المهتمين برصد تأثير المواقف الخارجية على الاستحقاق الرئاسي وعلى الوضع اللبناني عموماً: “علينا أن نبقي أعيننا على تفاعلات حرب أوكرانيا وامتداد الصراع الروسي الغربي في الشرق الأوسط. فالانقسام الدولي الحاد يتصاعد ويتصرف قطبا الصراع بتشدد حيال مواقف الدول الأخرى وفي شأن نفوذ كل منهما في أنحاء العالم”.
واشنطن وأوروبا: طهران ملحقة بموسكو
إذا صح أن أبعاد الاستقطاب الدولي بفعل الحرب في أوكرانيا ستنعكس على لبنان وهوية رئيس الجمهورية المقبل، فإن الحديث عن تسوية على إسمه لا يبدو متيسراً برأي أصحاب وجهة النظر هذه. واشنطن تصنف طهران صاحبة النفوذ الأقوى في لبنان من خلال “حزب الله”، بأنها ملتحقة بموسكو. والعاصمة الروسية مصممة على عدم ترك الساحات العربية للنفوذ الأميركي، إلى درجة إبداء ارتياحها إلى الموقف الخليجي الوسطي حيال الحرب، من جهة وتبقي عينها على الرئاسة اللبنانية واعدة نفسها بلعب دور في اختيار الرئيس العتيد بالتعاون مع حليفتها طهران من جهة ثانية، مراهنة على علاقة الصداقة مع بعض اللاعبين المحليين لترجيح كفة شخصية ترتاح إليها مثل سليمان فرنجية الذي لا تخفي الدبلوماسية الروسية ميلها نحو دعم ترشيحه.
في قراءة أحد السياسيين اللبنانيين لإمكان تكرار التسوية الأميركية الإيرانية على الرئاسة اللبنانية يقول إن مفاعيل حرب أوكرانيا على لبنان تأتي إليه بالتقسيط. ويرى أن النكسة التي أصيب بها الاتفاق على النووي لم يعد سببها الخلاف بين دول الغرب وبين طهران على بنود الاتفاق بحد ذاته، وحول رفع العقوبات عن الأخيرة، بل بات يتعلق بما تعتبره دول الغرب “الحرب الروسية على أوروبا” ومن أدواتها حرب الغاز الروسي ضد القارة العجوز، التي يرى الأوروبيون أن طهران تنحاز فيها إلى الجانب الروسي.
مواجهة الحرب على أوروبا تتقدم على النووي
تستدل وجهة النظر هذه من مؤشرات عدة على تأثير تعاظم الانقسام الدولي الذي سيتعمق أكثر بعد قرار فلاديمير بوتين إعلان التعبئة الجزئية والذي اعتبره الرئيس الأميركي جو بايدن تلويحاً بالسلاح النووي، وانتقدته الدول الأوروبية كافة. ومن بين هذه المؤشرات تذكر الآتي:
– البيان البريطاني الألماني الفرنسي الذي صدر في 11 أيلول والذي ألقى اللوم على طهران بأنها “اختارت عدم التقاط الفرصة الدبلوماسية الدقيقة التي أتاحها النص الأخير الذي وضعه منسق المفاوضات (الأوروبي) على النووي والذي أخذنا إلى أقصى حدود الليونة”. البيان حذر طهران من أن الدول الثلاثة “ستتشاور مع الشركاء الدوليين حول أفضل طرق التعامل مع تصعيد إيران النووي وغياب تعاونها مع وكالة الطاقة الدولية…” لهجة البيان حسب وجهة النظر التي تعطي أولوية للاصطفاف الدولي حول الحرب في أوكرانيا أبعد من الخلاف على النووي مع طهران ويتعلق باصطفافها إلى جانب موسكو، بدليل انضمام فرنسا إلى اللهجة المتشددة حيالها قياساً إلى لهجتها الوسطية سابقاً.
– أن مظاهر التحسب الإيراني لتوسع الصراع استناداً إلى الاصطفاف الدولي بعد حرب أوكرانيا، استقبال موسكو لحركة “حماس” والدور الإيراني في مصالحة الأخيرة مع النظام السوري. والقيادة الروسية تعمل على تجيير أدوار إيران في المنطقة لصالح موقعها الدولي…
في قراءة أحد السياسيين اللبنانيين لإمكان تكرار التسوية الأميركية الإيرانية على الرئاسة اللبنانية يقول إن مفاعيل حرب أوكرانيا على لبنان تأتي إليه بالتقسيط
البيان الأميركي الفرنسي السعودي والنفوذ الإيراني
– تنسحب لهجة البيان الأميركي الفرنسي السعودي الذي صدر ليل 21 أيلول حول لبنان، إثر اجتماع ممثلين للدول الثلاث في نيويورك على الاستنتاج السابق. فواشنطن وباريس والرياض تبنت بالكامل في هذا البيان قرارات مجلس الأمن التي سعى “حزب الله” عبر نفوذه على السلطة اللبنانية، إلى شطبها من إحدى فقرات قرار التجديد ل”يونيفيل” في جنوب لبنان والمتعلقة ببسط سيطرة الحكومة اللبنانية على الجنوب وتلك التي تنص على الانتقال إلى “وقف النار الدائم والحل الطويل الأمد…” أي مرجعية القرارين 1559 و1680 و”الأحكام الواردة في اتفاق الطائف” المتعلقة ب”سلاح الميليشيات”. واستند البيان الثلاثي إلى قرار التجديد ل”يونيفيل” الرقم 2650 الذي أخفق “الحزب” في تعديل مسودته. كما أضاف البيان إلى هذه المرجعيات الدولية، قرارات الجامعة العربية والتزام اتفاق الطائف. وهذه القرارات ترد على تمتع “حزب الله” كأداة إيرانية بقدرة واسعة على الحركة العسكرية في الجنوب وتعطي طهران ورقة وازنة في الصراع على النفوذ الإقليمي. ودعت الدول الثلاث إلى انتخاب رئيس “يستطيع توحيد اللبنانيين”… وسبق لهذه الدول أن اتفقت على استبعاد أي مرشح من 8 آذار، خلال اجتماع عقد في باريس في 10 سبتمبر، ما يعني رفضها للمرشح الذي يمكن أن تدعمه موسكو، أي فرنجية رغم أن الدبلوماسية الروسية تتجنب الإعلان عن هذا الدعم حتى إشعار آخر.
الليونة في الترسيم غيرها في الرئاسة؟
الحجة المقابلة للتوجس من صعوبة التسوية على الرئاسة تقفز فوراً إلى الاستدلال من الليونة الأميركية في مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، والتي بات معروفاً أنها تجلت في ضغوط واشنطن على إسرائيل كي تقبل بالاقتراحات اللبنانية، التي لم يمانع “حزب الله” في طرحها وقابلها بتبادل الرسائل مع الجانب الأميركي حول طلب آيموس هوكستين التهدئة والعودة عن التهديدات بقصف حقل “كاريش”. والأجواء المتفائلة الآتية من نيويورك عن قرب التوصل إلى الاتفاق دليل على إمكان أن تنسحب التسوية في شأن الحدود واستخراج الغاز.
إقرأ أيضاً: لبنان أولوية إيران وليس الحرب مع إسرائيل
لكن القائلين بتأثير الاصطفاف الدولي على دول المنطقة ولبنان منها وصولاً إلى مسألة الرئاسة يرون أن ما يحصل في شأن الترسيم هو بالضبط بسبب أولوية تحصين الغرب في الحرب في أوروبا. وليونة واشنطن في ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان دافعها الأول والأخير هو الرد على حرمان موسكو أوروبا من الغاز الروسي، بتسهيل إنتاجه من حقل “كاريش” وغيره ليعوض ولو جزئياً عن الطاقة من موسكو. لكن هذه الأولوية تنقلب إلى تشدد بدل الليونة حول القرار لمن سينتخب رئيساً للجمهورية.
الأسابيع والأشهر المقبلة، باعتبار أن الفراغ الرئاسي هو المرجح، توضح صحة أي من وجهتي النظر.