تركيا في “شنغهاي”؟ من يقرع الباب يسمع الجواب

مدة القراءة 8 د

الانفتاح التركي التجاري على منظمة “شنغهاي” ممكن طبعاً، لا بل ضروريّ في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ بها الاقتصاد التركي. لكنّ تحويل المسألة إلى بوصلة استراتيجيّة جديدة لتركيا على حساب كلّ ما بنته منذ عقود في علاقاتها مع الغرب، قد يعرّضها لتحمّل أعباء وارتدادات اقتصادية وسياسية وعسكرية واجتماعية مكلفة.

انتقامًا من أوروبا؟

قال الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان قبل عام: “عندما نتحدّث إلى الغرب نرى مستقبلنا في أوروبا”. لكنّه اليوم – فيما هو يغادر سمرقند بعد مشاركته في قمّة دول “شنغهاي” للتعاون والتقاطه متوسّطاً الحضور في الصورة التذكارية – يقول شيئاً جديداً حرّك الداخل التركي والعواصم الغربية: “تركيا تهدف إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الأعضاء في شنغهاي وتتويج هذه العلاقة في نهاية المطاف بعضويّة المنظمة. وقمّة الهند في العام المقبل قد تشهد مفاجآت بهذا الخصوص”.

كان إردوغان يلوّح بين الحين والآخر بسيف العضوية في “شنغهاي” كورقة ضغط في وجه الاتحاد الأوروبي الذي أوصد الباب في وجه أنقرة ولم يفتحه حتى اليوم. أضاف الرئيس التركي الشريك الأميركي، الذي يصعّد مع أنقرة على أكثر من جبهة، إلى اللائحة هذه المرّة.

هدف تركيا هو مواصلة لعب دور بيضة القبّان في العلاقة بين الشرق والغرب. لكنّ أنقرة تتطلّع هذه المرّة إلى لعب دور الموازن في العلاقة بين روسيا والصين بسبب موقعها الجغرافي ونفوذها في آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان

يقول مستشار الرئيس الروسي سيرغي ماركوف إنّ “العالم يتابع اليوم عن قرب ابتعاد تركيا الجيوسياسي عن أميركا وأوروبا واحتمال تحوّلها إلى شريك استراتيجي لروسيا ينجح في حماية موقعه داخل الحلف الأطلسي”. يتناقض هذا الكلام مع ما قيل لنا في قمّة سمرقند قبل أيّام عن استعدادات لفتح الطريق “لنظام دولي جديد” يهدف إلى تحدّي النفوذ الغربي عبر حشد قادة المنطقة في هذا التجمّع، فهل تأخذ أنقرة مكانها وسط تكتّل من هذا النوع؟

توسّع منظّمة “شنغهاي” عاماً بعد آخر دائرة تطلّعاتها وأهدافها السياسية والأمنيّة والاقتصادية. وهي لن تتردّد في منافسة التكتّلات الغربية إذا ما تمكّنت من ذلك. فهل يكون بمقدور أنقرة الالتزام بقواعد اللعبة في الغرب والالتحاق بمعايير شنغهاي في الشرق في وقت واحد؟ وهل يرضى شركاء الناتو إعطاء أنقرة ما تريده؟

لم يمرّ طريق تركيا إلى أوروبا يوماً عبر شنغهاي. وهي لم تكن بين أهدافها وتطلّعاتها. فهل تنتقل أنقرة من طاولة استراتيجية غربية جلست إليها لعقود إلى طاولة استراتيجية شرقية تتقاسم النفوذ فيها روسيا والصين والهند وإيران؟

تحذير أوروبي

هدف تركيا هو مواصلة لعب دور بيضة القبّان في العلاقة بين الشرق والغرب. لكنّ أنقرة تتطلّع هذه المرّة إلى لعب دور الموازن في العلاقة بين روسيا والصين بسبب موقعها الجغرافي ونفوذها في آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، إلى جانب مجاورتها بحار تجمع آسيا وأوروبا. انتقلت “شنغهاي” من كونها منظّمة لحلّ الخلافات الحدودية عام 1996 إلى تكتّل متعدّد الأهداف والجوانب يستعدّ لمنافسة “الناتو” والاتّحاد الأوروبي في السنوات القليلة المقبلة. بلغ عدد أعضائها 9 دول بعد دخول إيران رسميّاً، إضافة إلى 3 أعضاء مراقبين و9 أعضاء مشاركين يُتوقّع ارتفاع عددهم إلى 15 خلال أعوام، بينهم 6 دول عربية مؤثّرة في المنطقة. إنّه تكتّل يمثّل 40 في المئة من عدد سكّان العالم، ويساهم بـ30 في المئة من الدخل العالمي، و38 في المئة من الإنتاج الزراعي، و44 في المئة من مخزون الغاز في العالم، وله ثقل جغرافي يغطّي 60 في المئة من منطقة أوراسيا، ويضمّ 4 دول تملك السلاح النوويّ.

قد لا تكون “شنغهاي” بديلاً للأطلسي أو الاتّحاد الأوروبي بالنسبة إلى أنقرة، لكنّها ستأخذ مكانها بين خيارات وقواعد المنظّمة عندما تلتحق بها. جاءت ردّة الفعل التحذيرية الأولى من برلين وبروكسل الأوروبيّتين قبل ساعات.

القاسم المشترك بين قمّة طهران الثلاثية التركية الروسية الإيرانية في 20 تموز المنصرم، وقمّة سوتشي الثنائية في 5 آب الماضي بين إردوغان وبوتين، وقمّة شنغهاي في 15 أيلول، هو إنجاز 3 لقاءات تجمع الرئيسين التركي والروسي خلال أقلّ من شهرين. فلِمَ لا تقلق واشنطن؟

 

غضب أميركي

عندما يدخل إردوغان قاعة الاجتماعات في قمّة شنغهاي متأبّطاً ذراع الرئيس الروسي، وعندما يسارع بوتين إلى تقليد الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين وهو يعانق كبار أعضاء الوفد الروسي المشارك في قمّة سمرقند ضاحكاً، فمن حقّ واشنطن أن تصعّد ضدّ “فائض التودّد” هذا والملاطفة الدبلوماسية التركية الروسية. كان إردوغان في طريقه إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامّة للأمم المتحدة عندما جاء خبر قرار واشنطن إنهاء حظر بيع السلاح للقبارصة اليونان اعتباراً من العام 2023. ربّما يكون هذا ردّاً أميركياً على الاحتفاء الأفروآسيوي بإردوغان. الكرة في ملعبه وكان لا بدّ من توجيه تحيّة من نفس العيار: “هدفنا النهائي في العلاقة مع منظمة شنغهاي هو العضويّة الكاملة”.

بوتين هو بوّابة الأمل التركيّة في أكثر من ملفّ إقليمي. وإردوغان هو فرصة موسكو لمواجهة الضغوط والحصار والعقوبات الغربية. فلم لا يغضب بايدن ويردّ؟ هناك أكثر من ذلك حول حجم التباعد والخلافات التركية الأميركية. تريد واشنطن تفعيل سياستها في شرق المتوسّط وقبرص وسوريا وإيجه والبحر الأسود، وهي كلّها مناطق تقاطع نفوذ أميركي تركي. لكنّ أنقرة تذهب وراء استراتيجية انفتاحيّة على روسيا تتعارض مع مصالح واشنطن وأهدافها. المتبقّي هو شمال العراق حيث يعيق التقارب بين أنقرة وأربيل هدف إكمال حلقة محاصرة تركيا أميركيّاً كما يردّد البعض في الداخل التركي. فهل هدف أميركا الأساسي هو دفع أنقرة نحو “شنغهاي” لإبعادها عن حلف شمال الأطلسي والشراكة مع الغرب وإعلان خياراتها وبدائلها في التحالفات والاصطفافات الإقليمية الجديدة؟ قد تكون الإجابة عند الرئيس الأميركي الذي يمكنه أن يقول لنا من هم الذين سيلتقيهم في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامّة للأمم المتحدة، وهل يعقد اجتماع قمّة مع نظيره التركي وسط كلّ هذا التوتّر أم لا؟

تشريق وتغريب تركي

يتمسّك البعض في الداخل التركي بقدرة أنقرة على حماية مصالحها مع الشرق والغرب في وقت واحد وبشكل متوازن. إنّ الأوراق التي تملكها تركيا في الإقليم هي التي تمكّنها من لعب هذا الدور وتدفع واشنطن وموسكو إلى حماية مسار علاقاتهما بها. كانت معادلة ممكنة حتى الأمس القريب، لكنّ التحوّلات والمتغيّرات الإقليمية والدولية قلبت الأمور وألزمت الجميع بقراءات محدثة معدّلة. قبرص اليونانية تهدي جغرافيّتها لأميركا بعد الاتحاد الأوروبي في إطار لعبة بناء المكعّبات السياسية التي ستفتح الطريق لمكعّبات الغاز أمام سواحل الجزيرة للعبور نحو أوروبا بقرار أميركي.

يتزايد عدد أنصار فكرة الالتحاق بمنظمة شنغهاي الآسيوية في الداخل التركي يوماً بعد آخر. السبب هو توتّر العلاقات بين أنقرة والغرب والوصول إلى قناعة استحالة قبول أنقرة عضواً في المجموعة الأوروبية بعد انتظار طويل. وسّعت تركيا من علاقاتها التي انطلقت مع منظمة شنغهاي في أواخر العام 2008 على أساس الشريك في الحوار، وما زالت حتى اليوم تحظى بهذه الصفة. النموذج الهندي هو الأقرب وفي متناول يد أنقرة للدفاع عن سياسة انفتاحها على الغرب والشرق معاً، لكنّ “شنغهاي” قد تكون لها شروطها أيضاً إذا ما حسمت أنقرة موقفها في مسألة العضويّة. هناك شرط الإجماع الواجب تجاوزه والذي يحتاج إلى إرضاء بكين وطهران ونيودلهي قبل غيرهم. 

أعرب إردوغان من نيويورك قبل أيام عن أمله أن يتمّ خلال المرحلة المقبلة تعزيز التعاون بين أنقرة وواشنطن بناء على المصالح المشتركة. وأعلن أنّ تركيا والولايات المتّحدة الأميركية تربطهما شراكة استراتيجيّة منذ نحو 70 عاماً، مشيراً إلى عدم وجود مشكلة بين الجانبين لا يمكن حلّها. يتحدّث الرئيس التركي بنبرة تفاؤليّة ويدعو واشنطن إلى الالتزام بمتطلّبات الشراكة في العلاقة مع أنقرة.

إقرأ أيضاً: ما الذي يحرّك الجبهات في القوقاز؟

لكنّه سيسأل حتماً نظيره الأميركي إذا ما التقاه في نيويورك عن دور بلاده في تأجيج التوتّر والتصعيد الحاصلين بين أنقرة وأثينا، وبينها وبين نيقوسيا، وتمسّك الإدارة الأميركية بحليفها “قوات سوريا الديمقراطية” في سوريا، وهل تنحاز أميركا عسكرياً وسياسياً إلى جانب هذه القوى عند المواجهة الحقيقية على حساب شراكتها الاستراتيجيّة مع تركيا؟

أنقرة غاضبة بسبب مواقف وسياسات أميركا وأوروبا في شرق المتوسط وإيجه وسوريا والقوقاز. “ألبوم” صور قيادات حزب العدالة والتنمية في الأشهر الثلاثة الأخيرة لا يُفرح الغرب كثيراً أيضاً. الطريق إلى حديقة “شنغهاي” لن تكون ورداً بلا شوك. المسألة أبعد من قرع الباب لسماع الجواب.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…