السودان: فيضان ونصف أمل.. بلا تعليم

مدة القراءة 5 د

لا يذهب 7 ملايين طفل سودانيّ إلى المدارس، ما يعني أنّ ثُلث الأطفال السودانيّين بلا مستقبل. هذا الوضع وصفه بيان مؤلم لمنظّمة اليونيسف بـ”كارثة جيل”. ذلك أنّ ثلثَيْ التلاميذ يواجهون مشكلات كثيرة، بينما الثلث الآخر بات خارج العمليّة التعليمية تماماً.

في الواقع يشهد السودان كارثة أجيال، لا كارثة جيل واحد. فالذين وُلدوا بعد عام 1970 أنفقوا ثلاثين عاماً ذهبيّة من أعمارهم في ظلّ التجربة الفاشلة للحكم الإخواني. والذين وُلدوا قبل ذلك شهدوا تقلّبات السلطة السودانية ذات اليمين وذات اليسار، بلا استقرار أيديولوجيّ أو تأسيس سياسيّ.

أمّا الذين وُلدوا في سنوات ما سُمّي الربيع العربي فهم لا يشهدون فقط ذلك التسرُّب الهائل من التعليم، بل ذلك التسرُّب الأكبر لمساحات الأمل.

يشهد السودان في خريف 2022 نصف إحباط ونصف أمل، وبينما هو أقرب ما يكون إلى الحلّ، فهو أبعد ما يكون أيضاً

أخوانة علم الرياضيّات

يصل عدد سكّان السودان إلى 43 مليون نسمة، ويصل عدد جامعاته إلى 54 جامعة، منها 34 حكومية و20 خاصّة. وتعتبر بعض الإحصاءات عدداً من المؤسّسات التعليمية الأصغر في عداد الجامعات، فيصل عدد الجامعات السودانية عام 2022 إلى 60 جامعة، يدرس فيها 600 ألف طالب.

بالتوازي مع إنشاء الجامعات الخاصة تأسست أكثر من 2,500 مدرسة خاصّة نصفها في الخرطوم، ويعمل في مجمل المدارس السودانية الحكومية والخاصّة أكثر من 300 ألف مدرّس.

إضافة إلى المدارس والجامعات يوجد في السودان نظام “الخلوات” أي “الكتاتيب”، وهي أماكن تعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، ويزيد عددها على 30 ألف خلوة.

تعاني تلك المنظومة جميعها من التدهور الكبير. فالجامعات لم تعد سمعتها كما كانت، وتراجع ترتيبها بشكل مذهل في كلّ التصنيفات العالمية. وبدورها تعاني المدارس من عدم صلاحيّة معظمها للعمل. وحسب خبراء تعليم سودانيين فإنّ 60 في المئة من المدارس الحكومية لا تصلح للعملية التعليمية.

أمّا الخلوات فأظهر تحقيق استقصائيّ لـ”بي بي سي” وشبكة “أريج” نشر في أيلول 2022 أنّ عدداً كبيراً من شيوخ الدين الذين يديرون الخلوات يقومون بتعذيب الأطفال. وقد روى بعضهم مآسي مروّعة ترسّخت أثناء الحكم الإخواني. قال أحد التلاميذ إنّهم “يقومون بتقييد الأطفال، وضربهم بالعصا كالحمار، وأحياناً يربطون 6 أو 7 أطفال معاً بالسلاسل، ويجعلونهم يركضون، ومن يقع يضربونه. إنّهم يعاملوننا كالعبيد”. دافع أحد شيوخ الخلوات عن ذلك الأسلوب، فيما أدانه آخرون، وقالت الحكومة إنّه نظام ورثناه من البشير، ونسعى إلى إصلاحه.

على مدى ثلاثين سنة قام الإخوان بتسييس التعليم، وأخونة المناهج وهيئات التدريس. وحسب أحد الأساتذة فإنّ العلوم البحتة كالرياضيات لم تنجُ من أيديولوجية الإخوان.

جامعات ضدّ البرهان

اتّخذت الجامعات الحكومية موقفاً معارضاً لسياسات المجلس السيادي ورئيسه عبد الفتاح البرهان، ورأت القيادات الجامعيّة أنّ إقالة الحكومة المدنية تدفع البلاد إلى أزمة كبرى وطريق مسدود.

في آذار 2022 قام الرئيس البرهان بحلّ مجالس أمناء الجامعات، وبدورها انطلقت الحركات الطلابية في تظاهرات لم تنقطع منذ ذلك الحين.

لم يمضِ نصف عام على ذلك الصدام حتى عاد الرئيس البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى ما تراه الحركة المدنية السودانية.

قال الرئيس البرهان: “سأترك السلطة وأتفرّغ للزراعة التي أحبّها”. وقال مستشاره: “سوف نسلّم السلطة لحكومة يتوافق عليها كلّ السودانيّين، أو منتخَبة، أو لحكومة كفاءات وطنية غير حزبية”. وأمّا نائب الرئيس الفريق دقلو فقد قال: “لقد أخفقت خطوات تصحيح المسار التي اتّخذها الجيش في تشرين الأوّل 2021، فأصبحت الأوضاع الاقتصادية والأمنيّة أسوأ كثيراً”.

 

فيضان ونصف أمل

شهد صيف 2022 أسوأ فيضانات السودان منذ أكثر من سبعين عاماً. وارتفع سطح مياه النيل إلى أعلى مستوى منذ سبعة عقود، وأصبح قرابة مئة وخمسين ألف شخص في معاناة كبيرة، ومات العشرات وأُصيب المئات وتشرّد الآلاف، في مشهدٍ يشبه ذلك الذي حدث في باكستان.

زار الرئيس البرهان المناطق المنكوبة وقال لائماً الساسة والسياسيّين: “لقد أضعنا ثلاث سنوات من حياة الشعب السوداني في المواجهات والمشاكسات، وليس في العمل على حلّ مشاكل بلدنا ومجتمعنا”. زاد نائب الرئيس في نقد السياسيين بقوله: “أنا أكره السياسة والسياسيّين”.

أدرك الرئيس ونائب الرئيس أن لا بدّ من السياسة وإن طال السفر، فجرى الحديث عن تسليم السلطة للمدنيين. لكنّ ذلك كان يحمل مزيجاً من المسؤولية والمراوغة: ثمّة مسؤولية وطنية حقيقية في عدم ترك الجيش السلطة لسياسيّين فاشلين، وأحزاب وحركات زاعقة، وقوى ثورية لا تمتلك كفاءة الانتقال من الثورة إلى الدولة. وثمّة مراوغة أيضاً حيث تتعدّد شروط ذلك التسليم للسلطة، ويشير الفريق دقلو إلى احتمالات ترشّحه للرئاسة، وحسب حديثه لـ”بي بي سي” فهو يقول إنّه لا يمانع إدماج قوّات الدعم السريع التي يصل عددها إلى مئة ألف مقاتل في القوات المسلّحة السودانية، ثمّ يقول إنّ السودانيّين سوف يندمون على ذلك.

إقرأ أيضاً: تونس الآن.. رايتا جند الخلافة وديغول

يشهد السودان في خريف 2022 نصف إحباط ونصف أمل، وبينما هو أقرب ما يكون إلى الحلّ، فهو أبعد ما يكون أيضاً. فإذا ما أحسن السودان إدارة هذه المرحلة الحاسمة في تاريخه، فإنّه يكون قد فتح الأبواب في اتجاه المستقبل. وإذا لم يحسن ذلك، فإنّه قد يكون بصدد فتح أبواب جهنّم.

حفظ الله السودان.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…