تبدو الأوساط السياسية التي تتوقّع فراغاً رئاسياً جازمةً في حصوله، وتذهب إلى حدّ القول إنّ المسألة ليست في مرور المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس التي تنتهي في 31 تشرين الأول المقبل من دون انتخابه، بل في المدّة التي سيستغرقها الفراغ الرئاسي، وفي كونها قصيرة أو طويلة.
إذا لم تحصل أعجوبة تغيِّر من هذا الانطباع، أو إذا لم يحصل تطوّر إقليمي مفاجئ يقلب الصورة، فإنّ القادة السياسيين الذين يتهيّأون للتعاطي مع الصعوبات التي تواجه اختيار الرئيس الجديد سيقومون بمحاولات لتقصير مدّة الفراغ المفترَض، وإلى إطلاق موجة أو موجات من المشاورات المكثّفة، لعلّ اتفاقاً يحصل على شخص الرئيس المقبل، تتوافر له الأكثرية المطلقة أو أكثر بقليل (65 نائباً وما فوق)، بعد ضمان نصاب الثلثين لانعقاد البرلمان بما هو هيئة انتخابية.
بعد 31 تشرين الأول، لن تشارك القوى السيادية، ولا سيّما التغييرية، في لعبة تعطيل النصاب، حتى لا يتمّ وصمها بأنّها مثلها مثل حزب الله وحلفائه والتيار الحر تتسبّب بشغور الرئاسة
لعبة النصاب سيمارسها الطرفان
لكنّ لعبة إكمال النصاب أو تعطيله تشمل هذه المرّة ترجيح عدم توافر الثلثين ضمن المهلة الدستورية على الأقلّ، حيث تتقاطع مواقف فرقاء وكتل نيابية متناقضة التوجّهات، إذا كانت الكفّة راجحة نحو وصول مرشّح تلتقي هذه الكتل على من تعارض انتخابه، عبر الحؤول دون نصاب الثلثين. وإذا كان حصول المرشح على الأكثرية في الدورة الثانية مضموناً، أي أنّه إذا حسم حزب الله خياره نحو دعم ترشّيح سليمان فرنجية أو أيّ شخصية من قوى 8 آذار، فإنّ بعض القوى والكتل النيابية السيادية والتغييرية قد تلجأ إلى تعطيل النصاب. ويُنتظر أن يشاركها في هذا التوجّه معظم نواب “التيار الوطني الحر” إذا كان المرشّح المحظوظ هو فرنجية.
قد تكون العقدة في مرحلة المهلة الدستورية من صنع قوى غير قوى التعطيل التقليدية المصنّفة قوى “الممانعة”. أمّا بعدها، فإنّ الأمر يتوقّف على عوامل أخرى أكثر تعقيداً، سيقودها حزب الله.
بعد 31 تشرين الأول، لن تشارك القوى السيادية على الأرجح، ولا سيّما التغييرية، في لعبة تعطيل النصاب، حتى لا يتمّ وصمها بأنّها مثلها مثل حزب الله وحلفائه والتيار الحر تتسبّب بشغور الرئاسة، كما حصل في 2008 وفي 2014. وفي هذه الحال قد تعود ممارسة التعطيل إلى مبتدعيها الأصليّين.
رئيس تحدٍّ من الجهتين أم تسوية؟
إلا أنّ هذه التوقّعات هي أقرب إلى الأحجية طالما الغموض يسيطر على مواقف الكتل النيابية الأساسية، فيما ينشغل البرلمان بالتشريع لإقرار الموازنة وقوانين إصلاحية قرّر رئيسه نبيه بري إعطاءها الأولويّة بحجّة تحصين الرئيس المقبل بها في سعيه إلى إطلاق الحلول في العهد الجديد. وهذا ما يبرّر له تأجيل الدعوة إلى جلسة انتخابية لعلّ فسحة الوقت تتيح اتفاقاً على شخص الرئيس أو تؤدّي إلى تسوية حول اسمه.
لكنّ المسألة الجوهرية تبقى في البحث عن تسوية ستأتي باسم الرئيس الجديد، وأيّ معادلة خارجية وداخلية يمكن أن تُنتج هذا الرئيس بدل الاستغراق في التكهّنات حول لعبة تعطيل أو عدم تعطيل النصاب. فالحسم بإمكان حصول تسوية أو عدمه هو الذي ينير الطريق في شأن استخدام أيّ فريق لتعطيل النصاب، وبالتالي يحدّد هويّة من سيتولّى المنصب الأوّل في الجمهورية.
تتأرجح آفاق الرئاسة اللبنانية بين السعي إلى رئيس تتّفق عليه الأكثرية المفترضة (67 نائباً) غير المنضوية تحت جناح الحزب، وهو ما يسمّيه بعض السياديين رئيس “التحدّي”، وبين نجاح “الحزب” باجتذاب 4 إلى 5 أصوات إلى خياره من الكتل المحسوبة على الأكثرية الجديدة، فيضمن نجاح مرشّحه هو ، وفرنجية في الطليعة. أما الخيار الثالث فهو العمل من أجل رئيس تسوية يصفه حزب الله والرئيس نبيه برّي بنتاج التوافق. ووفقاً لذلك تختلف الحسابات في شكل كامل. والحسم بين الخيارات الثلاثة دونه توفير “عُدّة الشغل” لكلّ منها، وهو أمر غير متوافر وليس واضحاً حتى الآن.
لا حلول برئيس يعكس استمراريّة العهد الحاليّ
يعتقد الباحثون عن تسوية أنّه يصعب الإتيان برئيس جديد من دون التفاهم مع حزب الله الذي يُفترض أن تكون تجربة السنوات الست الماضية، والأزمة الاقتصادية المالية الخانقة المرشّحة للتصاعد، قد أقنعتاه بأنّ الإصرار على رئيس صداميّ وممانع قد يحفظ له ما حقّقه من مكاسب ونفوذ على المؤسّسات السياسية والدستورية والأمنيّة والإدارية، لكنّه لن يقود إلى حلّ لأزمة البلد.
في كلّ الأحوال أظهرت المداولات الخارجية أنّ رئيساً من هذا النوع لن يلقى قبولاً من الدول الغربية والعربية المعنيّة بمساعدة لبنان على تجاوز أزمته الاقتصادية المالية التي باتت أقرب إلى الاستعصاء. وآخر تلك المداولات ما رشح عن المشاورات الفرنسية السعودية مطلع شهر آب الماضي، بموازاة التنسيق الأميركي الفرنسي، والتشاور السعودي الأميركي أيضاً. وفي وقت بات ثابتاً الاتفاق الدولي العربي على معارضة أيّ رئيس من قوى 8 آذار، فإنّ الموقف السعودي خلال المحادثات كان حاسماً في معارضة الرياض الانخراط في دعم لبنان إذا جاء رئيس يشكّل استمرارية للعهد الرئاسي المنقضي، في سياسته الخاضعة لـ”حزب الله” وتبعيّته للمحور الإيراني، ومعاداته للدول العربية والخليجية. وهذا يعني أنّ الرياض تطمح إلى أن يتبوّأ المنصب شخصية على مسافة من الحزب الذي هو أداة إيرانية تستخدم لبنان منصّة لتعزيز نفوذ طهران الإقليمي. ومن والى الحزب كانت كلّفته الانهيار الاقتصادي المطّرد والمزيد من العزلة.
أيّ تنازلات إيرانيّة لمصلحة الرئيس الجديد؟
يطرح الباحثون عن إنهاء الفراغ المتوقّع وعن تقصير مدّته قدر الإمكان السؤال التالي: ماذا يستطيع أيّ مرشّح يطمئن إليه الحزب أن ينتزع من تنازلات من المحور الإيراني بما يرفع الهيمنة الكاملة لهذا المحور عن السلطة المركزية في لبنان، حتى يقبل الفريق الآخر المناوئ للحزب به، وينفتح عليه الخارج دولياً وخليجياً في شكل يتيح تقديم مساعدات الحدّ الأدنى للبنان كي يبدأ مسار النهوض من أزمته؟
أوهام مساعدات إيرانيّة والرهان على رفع العقوبات
فيما يجنح الحزب نحو مشاريع تُغني لبنان، برأي قيادته، عن مساعدة المجتمع الدولي والعربي، ويعلّق الآمال على أوهام استخراج النفط والغاز من البحر (وهو أمر يتطلّب سنوات)، وعلى وعود إيران بتقديم مساعدات، مثل وعد الحصول على الفيول للكهرباء منها (الأرجح أنّ مواصفاته ستطفئ معامل الكهرباء…)، وفيما يشكّل ذلك ملهاة شبيهة باستيراد البنزين والمازوت الصيف الماضي، الذي انتهى إلى عمل استعراضي ما لبث مفعوله أن احترق، فإنّ هذه البدائل تبدو أقرب إلى السراب كما أثبتت التجربة. فالوعود الإيرانية لسوريا بتقديم المساعدات لها والطلب منها الصمود والبقاء على التصاقها بطهران في مواجهة الإغراءات العربية، مبنيّة على توقّع رفع العقوبات عنها وتحرير أرصدتها التي ستنفق جزءاً منها على الاستثمار في سوريا. ففي هذه الحال ستحتاج إيران إلى هذه الأرصدة في الداخل، والهدف من الوعود هو تثبيت خيار دمشق الإيراني.
وقف التدخّلات مقابل تأجيل بحث السلاح؟
إنّ البحث الجدّي عن رئيس لبناني توافقيّ الذي يدعو إليه الثنائي الشيعي، وفق من يستكشفون إمكان حصول تسوية ما، يتطلّب استكشاف مدى الاستعداد الإيراني وحزب الله للتراجع الجدّي عن تقويض الاستقرار في عدد من الدول العربية بدءاً باليمن ووصولاً إلى لبنان. وإنّ المقابل الذي يمكن للدول العربية والخليجية أن تلاقي به الجانب الإيراني في لبنان مرحليّاً، هو تأجيل بحث سلاح الحزب وتطبيق القرارات الدولية في شأنه، الأمر الذي سبق للأمين العامّ السيد حسن نصر الله أن دعا إليه باقتراحه تأجيله لسنة أو سنة ونصف سنة، بحجّة التركيز على أولويّة معالجة الأزمة الاقتصادية. وحجّة تأجيل كهذه تحتاج إلى تفاهم إقليمي واسع. هذا مع التمسّك باتفاق الطائف الذي يرمز تطبيقه إلى معادلة إقليمية أرست تقاسم السلطة في لبنان خارج إطار التدخّلات الإيرانية.
إقرأ أيضاً: الحكومة اللبنانية: الخيبة بدل الهيبة
هل يمكن “التوافق” على الرئيس اللبناني الجديد من دون حدّ أدنى من المقايضة من هذا القبيل؟ هذا ما ستجيب عنه الأسابيع المقبلة، وعلى الجواب يتوقّف مدى طول الفراغ الرئاسي أو قِصَره.