ما فعلته فرقة “ميّاس” يتجاوز بكثير تقديم لوحات فنيّة راقصة مبهرة، أوصلتها للفوز بالمرتبة الأولى في برنامج مواهب عالمي بمستوى “أميركا غوت تالنت”. مستويات التفاعل اللبناني والعربي وحتى العالمي مع فوزها، تصلح لأكثر من الاحتفاء بنجاح فرقة شبابيّة وبمنتجها الإبداعي.
من حيث لا تريد، على الأرجح، حوّلت “ميّاس” إنجازها إلى محطّة من محطّات صناعة الأمل الصعب في لبنان اليوم.
صناعة الأمل وليس صناعة الرقص فقط. المحتفون بـ “ميّاس” يحتفون في مكان ما بفرديّاتهم وبصورتهم عن أنفسهم وعن لبنانهم ويدافعون بنجاح هذه الفرقة، عن صورة النجاح التي التصقت بهويّتهم، كأنّها مرادف من مرادفات أن تكون لبنانيّاً.
لم تسرق الطبقة السياسية مستقبل اللبنانيين وأموالهم، فقط. سرقت هذه السمعة تحديداً التي ارتبطت بالنجاح والكفاءة والجودة، وعمّمت بدلاً منها تهمة الفشل عليهم، إلى حدّ تكاد تكون فيه الجنسيّة تهمة.
ليست المرّة الأولى التي ينجح فيها اللبنانيون في توظيف نجاحات فنّية وثقافية ورياضية في لعبة الصراع مع المتسلّطين على مقدّراتهم ومستقبلهم
“شيلوا زبالتكم” يُقال للّبناني تنمّراً، حين تقود محادثة ما ولو عابرة، إلى اختلاف في وجهات النظر بين لبناني وغير لبناني.
هي صورة تمثّل خلاصة الفشل، وثّقتها كبريات محطات التلفزيون الدولية، وباتت بديلاً عن صورة لبنان الذي كأنّه مضى إلى غير رجعة.
ثمّ تأتيك صورة انفجار مرفأ بيروت، بأبعادها القياميّة، كأنّها صنو انفجار البلد نفسه، بماضيه وتاريخه وحاضره ومستقبله.. بلاد صارت كلّها، غيمة بيضاء تعلو فوق موت عميم.
“ميّاس” هي لحظة أمل، بكلّ نبل الأمل وهشاشته، وسط هذا الانهيار المريع الذي يصيب البلاد. زاوية مشرقة في كولاج صور مخيف ومهين ومحبط. وهي تعبير عن قدرة اللبنانيين على إيجاد ما يعلو فوق انقساماتهم من دون افتعال خطابات تعايشيّة أفلحت السلطات المتعاقبة في تفريغها من مضامينها.
حسناً فعل مؤسّس الفرقة نديم شرفان حين نأى بالفرقة وإنجازها عن الطبقة السياسية المتّهمة. فالناس تريد لهذا النجاح أن يوضع في ميزان المواجهة مع أهل الفشل والإحباط والتخريب. وحبّذا لو رفض تلقّي اتصال رئيس الجمهورية ميشال عون به، ولو يرفض تسلّم وسام الاستحقاق اللبناني المذهّب، الذي وعد به عون الفرقة “تقديراً لعطاءاتها الفنيّة ونجاحها”.
طبعاً، تمتلك العصابة الحاكمة كلّ أساليب الإغراء والغواية، من أجل تبييض سمعتها، لكن لا يمتلك اللبنانيون في وجهها إلا لحظات متفرّقة تجعل لاعتراضهم معنىً أبعد من المناكفة، وتؤسّس فعلاً لا قولاً للقدرة على استرداد الكرامة والحقّ والوطن.
ليست المرّة الأولى التي ينجح فيها اللبنانيون في توظيف نجاحات فنّية وثقافية ورياضية في لعبة الصراع مع المتسلّطين على مقدّراتهم ومستقبلهم. قبل نديم شرفان، رفع وائل عرقجي، نجم منتخب لبنان لكرة السلّة وقائد فريقه إلى التأهّل لكأس العالم، الصوت في مواجهة محور الفشل والفاشلين، حين ردّ على تهنئة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالقول:
“لا نريد تهنئته، ونحن نحاول أن نمسح الوسخ الذي وضعنا فيه مع زملائه السياسيّين. لذا، من الأفضل أن يبقي فمه مقفلاً”.
تجدر المثابرة على مثل هذا الاعتراض وحماية النجاح من مغريات لحظيّة يقدّمها مسؤول من هنا ومسؤول من هناك. “ميّاس” هي وسام ذاتها، وقلوب اللبنانيين وعقولهم التي ذهبت معها بعيداً في رحلة الشغف بغد أفضل، أرفع من كلّ مناورات أهل الفشل والإحباط والجريمة.
خلال حقبة الوصاية السورية على لبنان، وحين جُفّفت مصادر الاعتراض السياسي والوطني بالنفي والقتل والسجن والترهيب، تحوّل فريق “نادي الحكمة” لكرة السلّة إلى منصّة الاعتراض الوطني اللبناني الأولى. كان كلّ فوز للحكمة يرفع من معنويات اللبنانيين السياديين من كلّ الطوائف والمناطق، وكأنّه انتصار على الوصاية نفسها. تدرّج الفريق من كونه متنفّس الإحباط المسيحي، ليصير حزب السياديّين الأوّل، مع تمدّد الأفكار السيادية واختراقها بيئات غير مسيحية منذ منتصف التسعينيّات صعوداً نحو “ثورة الأرز” بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005.
لبنان اليوم في لحظة مماثلة. الانهيار الاقتصادي وطغيان الهموم المعيشية، لا يتركان مجالاً لترف التنظيم السياسي. وهذا ما تراهن عليه قوى المافيا. الأخيرون يعرفون الموقع الذي احتلّته “ميّاس”، بهذا المعنى السياسي، في وجدان اللبنانيّين أكثر من “ميّاس” نفسها.
إقرأ أيضاً: لبنان الإفلاس ولبنان “ميّاس”
أنتم خميرة اعتراض وطني وشعبي وشبابي من أجل بناء وطن أفضل.
ليبلّ رئيس الجمهورية وسامه ويشرب ماءه مع بقيّة أركان المافيا.
مرّة أخرى، “ميّاس” وسام نفسها، ولحظة أمل تستحقّ حمايتها بأشفار العيون.