لا تقتصر مشكلة تركيا واليونان اليوم على خلافاتهما السياسية والقانونية والاقتصادية حول بحرَيْ إيجه وشرق المتوسّط وأزمة قبرص المزمنة التي يتواصل التصعيد في مواقف وتصريحات قيادات البلدين بشأنها، بل تشمل أيضاً منظومة تحالفاتهما الإقليمية الاستراتيجية التي بناها كلا الطرفين، واتخذت في الأعوام الأخيرة شكلاً جديداً دفع إلى القناعة أنّ التسوية بينهما تجاوزت التفاهمات الثنائية إلى لعبة التوازنات الإقليمية والدولية التي دخلت على الخطّ.
أبعاد الاصطفاف الدولي
حاول الغرب التقريب بين البلدين وتخفيف عدائهما بأكثر من خطوة سياسية – أمنيّة انفتاحية عليهما معاً، للحؤول دون انفجار الجبهات، وتحويلهما إلى أهمّ قلاعه في المنطقة. لكنّ المعطيات والأجواء تغيّرت تماماً لصالح تحوّلات كبيرة في المواقف والسياسات والتوازنات الناجمة عن تصعيد روسيّ أميركي أوروبي على أكثر من جبهة في مناطق النفوذ التركي اليوناني.
وهذه ليست المرّة الأولى التي تجد تركيا واليونان، حليفا الغرب الأطلسي والأوروبي، أنهما على بوّابة المواجهة العسكرية بسبب خلافاتهما الإقليمية المتعدّدة الجوانب والأسباب. لكنّ الفارق هذه المرّة هو حجم التصعيد والتراشق الكلاميَّين والسياسيَّين بينهما، ومضمونهما وتوقيت اندلاعهما.
من الذي يصعّد مع تركيا في إيجه وشرق المتوسط؟ اليونان بمفردها أم معها أوروبا وأميركا؟ ومن الذي سيعطي القرار في مسيرة السلم أو الحرب في العلاقات التركية – اليونانية نيابة عن أثينا: واشنطن العائدة من جديد إلى قلب التوازنات السياسية والعسكرية، أم باريس التي تحاول المناورة لتسجيل اختراق ما من خلال العروض والاتفاقيات التي توقّعها مع اليونان لإبقائها إلى جانبها في لعبة الشدّ والجذب مع أنقرة؟ ثم لمصلحة مَن سيكون تفجير الوضع بين تركيا واليونان؟ هل يكون بمقدور أوروبا تحمُّل أعباء حرب جديدة في إيجه وشرق المتوسّط إلى جانب الحرب في أوكرانيا، أم أميركا هي التي ستقرّر نيابة عن الجميع موعد وشكل لعبة هدم وإعادة ترتيب المكعّبات عندنا؟ ألا تقلقها نتائج القمّة التركية – الروسية المرتقبة بين رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين على هامش أعمال “شنغهاي”؟
من الذي يصعّد مع تركيا في إيجه وشرق المتوسط؟ اليونان بمفردها أم معها أوروبا وأميركا؟ ومن الذي سيعطي القرار في مسيرة السلم أو الحرب في العلاقات التركية – اليونانية نيابة عن أثينا
تبادل التهديد
قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو: “إذا شرعت اليونان في مغامرات على حساب الآخرين، فسوف تتحمّل العواقب. هذا تحذير لليونان”. تحدّث أوغلو في أعقاب تصريحات ناريّة للرئيس التركي الذي هدّد أثينا بأنّها “ستدفع الثمن باهظاً إذا واصلت استفزاز أنقرة وتلويحها باستخدام أنظمة الدفاع الجوي إس-300 الروسيّة”. في المقابل ردّت اليونان بأنّ لديها القوّة وأدوات فعّالة لردع التهديدات التركية، ويمكنها “تعبئة” حلفائها التقليديين في مواجهة الاستفزازات التركية المتزايدة. ولم تكشف اليونان عن المقصود بحلفائها، وهي لم تتراجع عن مواقفها وتمسّكها بسياستها البحرية في إيجه وشرق المتوسط، مطالبةً في رسائل بعث بها وزير خارجيّتها، نيكوس ديندياس، إلى مفوّض السياسة الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، وإلى الأمين العامّ لحلف “الناتو”، ينس ستولتنبرغ، بالتدخّل لمواجهة “التصريحات الاستفزازية للسياسيّين الأتراك”.
لكنّ المفاجأة اليونانية الحقيقية جاءت قبل يومين في ردّ رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتشوتاكيس على تصريحات إردوغان الأخيرة التي جاء فيها: “قد نحضر في ليلة مظلمة”، مستقوياً بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي استقبله في الإليزيه، قائلاً: “إلى الذين يقولون إنّهم سيحضرون ليلاً نقول نحن ننتظركم مع طلوع الشمس”. لم تقلّد أوروبا الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي قال خلال حملاته الانتخابية إنّه “سيزيد دعم بلاده للمعارضة التركيّة لتفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وتُسقط إردوغان، كما فازت في الانتخابات المحلّية الأخيرة في إسطنبول”، لكنّها لا تريد التفريط بحسابات استراتيجية بنتها في العقدين الأخيرين بعد قرارات التوسعة والتمدّد باتّجاه شرق المتوسّط والشرق الأوسط وبحر إيجه، وأثينا جاهزة للقيام بكلّ ما يُطلب منها.
أثينا لن تفرط بالسيف الأوروبي
كانت الأنظار موجّهة نحو اللاعب الأميركي الذي دخل بكلّ ثقله على خطّ الحراك في البحار الثلاثة الاستراتيجية البعد شرق المتوسّط وإيجه والأسود. لكنّ أثينا لا تريد التفريط بالسيف الأوروبي من خلال رسائلها التحذيرية لأنقرة بأنّ “تجاهل اقتراح فتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين لن تكون له عواقب على الحوار التركي اليوناني فحسب، بل وعلى العلاقات بين تركيا وأوروبا”.
تذكِّر أنقرة بين الحين والآخر أثينا بأنّها لم تكن لتقدر على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي من دون دعم تركيا وموافقتها، فتردّ القيادة اليونانية بأنّ مفتاح العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي هو بيدها أيضاً، وهي ستقدّم هذه الخدمة لأنقرة إذا أعطتها ما تريد في ملفّات خلافية كثيرة. تغيّرت الأمور عمّا كانت عليه في الستينيّات، فاليونان باتت جزءاً من المجموعة الأوروبية، وهي حلقة وسط مجموعة تضمّ 28 دولة جاهزة لمواجهة تركيا في أيّ توتّر يحدث مع أثينا. تدهورت العلاقات التركية الأوروبية بسبب اليونان وسياسة تركيا في شرق المتوسط أكثر من مرّة. وانتقدت أنقرة المواقف الأوروبية متّهمةً عواصم عدة بالانحياز الكامل إلى أثينا والقبارصة اليونان “من أجل مصالح وأهداف أوروبية متواضعة على حساب علاقات استراتيجية كبيرة متعدّدة الجوانب والأهداف مع أنقرة”. لكنّ رسائل إردوغان الأخيرة تحمّل بعض العواصم الأوروبية مسؤولية إيصال التعقيدات في ملفّ الحرب الأوكرانية وارتدادات أزمة الطاقة المقبلة إلى هذه المرحلة، وتقول إنّ “أوروبا تحصد ما تزرع. وخطوات التصعيد الأوروبي ضدّ بوتين دفعته للردّ، شئنا أم أبينا”. والرسائل هذه ردّ تحيّة في إطار السجال التركي – الأوروبي حول التوتّر الحاصل بين أنقرة وأثينا.
مشاكل أنقرة
استقوت اليونان منذ عقود بموقعها الأوروبي بعد قبول عضويّتها في المجموعة الأوروبية عام 1981. وكانت تركيا، “الشريك المنافس” والموعود بعضويّة متزامنة، تعاني من ارتدادات انقلاب كنعان افرين العسكري في 12 أيلول 1980 وتجميد طلب عضويّتها التي بدأت عام 1959، وما زالت تواجه العقبات السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية حتى اليوم. مشكلة أنقرة الاستراتيجية الثانية مع اليونان، التي هي مشكلة أوروبية أصلاً، كانت في العام 2004 بعد فشل سيناريو فتح الأبواب أمام عضويّتها، مقابل تسوية النزاع في جزيرة قبرص في إطار خطة كوفي عنان الأمميّة التي انتهت بقبول عضويّة القبارصة اليونان بصفتهم ممثّلين للجزيرة. وهكذا بقي أتراك الشمال ينتظرون حلّ مشكلتهم حتى اليوم، وبقيت أنقرة تنتظر قدوم “الفرج الأوروبي” منذ 40 عاماً، بينما تحوّلت أثينا إلى شريك غربي أقوى محصّن بالقبّة الحديدية الأطلسية – الأوروبية. وتستقوي أثينا بأوروبا وضرورة جلوسها إلى أيّة طاولة سلم وحرب مع أنقرة، وتركيا ترفض مفاوضة أوروبا في ملفّات تعني اليونان وتحذّرها من المضيّ وراء هذه الأساليب والالتفافات التي لن تنقذها من الغضب التركي.
لكنّ التطوّر الجديد والمهمّ هذه المرّة جاء مع فشل أوروبا في محاولة الاستقلال الاستراتيجي عن أميركا في شرق المتوسط وإيجه وفي الملفّ القبرصي، وهو الحلم الفرنسي الأكبر للهيمنة على إدارة الملف بعد مغادرة بريطانيا المجموعة الأوروبية. وتحاول باريس أن تلعب دور بيضة القبّان بين البلدين، لكنّها توضح أنّ ذلك “لا يعني أنّنا سنقف على مسافة واحدة من الطرفين، لأنّنا سنكون بلا شكّ إلى جانب اليونان وقبرص في حال انتهاك أراضيهما”. تُرجم الدعم الفرنسي عمليّاً على الأرض من خلال صفقات بيع اليونان 18 طائرة مقاتلة من طراز “رافال”، وتوقيع عقد دفاعي مع فرنسا بقيمة حوالي 3 مليارات يورو، يشمل شراء ثلاث فرقاطات فرنسية. وهذا ما وضعه ميتشوتاكيس في خانة التحالف الاستراتيجي بين أثينا وباريس، وما وصفه ماكرون “بالخطوة الجريئة نحو استقلالية استراتيجية أوروبية”.
احتمال التصعيد
تحوّل بحر إيجه إلى مكان للّعب بالنار. شرارة واحدة قد تقود إلى اشتعال الجبهات، والثمن ستدفعه أنقرة وأثينا لصالح عواصم عدة تنقل الحطب إلى المكان.
حسب الأتراك، كانت باريس دائماً رأس الحربة في المشروع. فهي تصعّد في شرق المتوسّط وشمال إفريقيا، وتجيّش العواصم بعد تراجع سياستها وفشلها في ليبيا محمّلة أنقرة المسؤولية. ولهذا سمعنا القيادات التركية تردّد دائماً أنّها ستحلّ خلافاتها مع أثينا بشكل ثنائي، وليس عبر الاتحاد الأوروبي.
لكنّ الحقيقة التي لا يمكن إغفالها في الأشهر الأخيرة هي أنّ امتحان الحرب في أوكرانيا ألزم أوروبا الالتصاق أكثر فأكثر بالإدارة الأميركية وتسليمها مفاتيح اللعبة، وتحديداً الورقة اليونانية بكلّ ثقلها السياسي والأمنيّ. إنّ رفع أميركا عدد القواعد العسكرية التي أنشأتها على الأراضي اليونانية في الأعوام الأخيرة إلى “5+4” قواعد، حسب توصيف الرئيس التركي من دون أيّة توضيحات سياسية وأمنيّة أخرى، يؤكّد تراجع النفوذ الأوروبي وهيمنة واشنطن على الملفّ، وأنّ المواجهة أو الصفقة في ما يتّصل بمشاكل تركيا مع اليونان ستكون تركية – أميركية قبل أن تتناقش فيها أنقرة وأثينا مباشرة.
إقرأ أيضاً: تركيا – اليونان: أسماك بحر إيجه.. لا تعرف ما ينتظرها
لا نعرف الكثير عن السيناريو المحتمل الذي سيحدّد شكل ومسار التوتّر التركي اليوناني. لكنّنا نعرف أنّ خيار التصعيد واحتمال التفجير هما الأقرب. داعمو هذا التصوّر والمراهنون عليه كثر داخل البلدين وخارجهما. المشكلة هي تحديد من الذي سيبدأ وارتدادات ما سيجري. هناك من يتحدّث منذ الآن عن إعلان حال الطوارىء في البلدين بعد اندلاع المعارك، وعن احتمال إرجاء الانتخابات المرتقبة في أنقرة وأثينا العام المقبل لاستحالة إجرائها في الأجواء الصعبة التي ستواكبها سياسياً وأمنيّاً. اليمين المدعوم من الأحزاب القومية في تركيا واليونان هو الأوفر حظّاً في البقاء على رأس السلطة عند اندلاع المعارك. بقاء ميتشوتاكيس يرضي اليونان لكنّه لا يرضي أنقرة. والعكس صحيح. فبقاء إردوغان لا يرضي اليونان لكنّه سيرضي الأتراك. إذاً ما هي مصلحة أميركا في نتائج من هذا النوع؟ تقليص عدد السيناريوهات والاحتمالات وبرمجة الخيارات هي المشكلة الأبرز الواجب حلّها أميركياً قبل إشعال الجبهات!