“المظلومية العربية” وقوة إيران برؤية المنشقين عن نظامها

مدة القراءة 10 د

غالبًا ما درجت تحليلات وتكهّنات صحافية عربية، ومن ورائها رأي عام عربي، على الركون إلى اعتبار قوة أميركا في النظام الدولي وسلطانها عليه، لا رادّ لهما ويسمحان لها بامتلاك مقدرة ناجزة وثابتة ومطلقة على حمل سواها من القوى الدولية والإقليمية على الرضوخ لإرادتها السياسية. والأرجح أن هذه النظرة للقوة والسلطان الأميركيَّين وليدة عجز عربي مديد عن الفعل السياسي، يرقى أقله إلى تفكّك الأمبراطورية العثمانية وانهيارها، وزوال الخلافة الإسلامية. وقد تراكم هذا العجز فتناسل ولازَمَ النظرة العربية إلى القوة والسياسة والصراعات السياسية، وجعلها أسيرة الضعف والضياع والهزائم المتكرّرة، منذ بداية القرن العشرين ونشوء الدول العربية الحديثة نشوءًا معتلًا يعاني من ضعف في إرادة “شعوبها” المنقسمة جماعاتٍ غير منسجمة، وتعوزها الوحدة والإجماع الوطني السياسي.

لما انتصرت ثورة إيران الخمينية الإسلامية، سارع مثقفون عرب إلى الذوبان في تيارها واستلهامها، بوصفها جوابًا ناجعًا على الخروج من الضعف العربي

خطاب المظلومية والأمجاد

أدى ذلك إلى استقالة هذه الدول و”شعوبها” من المسؤولية عن ضعفها وعدم وحدة جماعاتها، وتحميلها للقوى الدولية، التي تقول الخطابة العربية إنها تتآمر عليها. والاستقالة إياها أدت أيضًا إلى شعور ممضّ بعدم القدرة على التأثير في الصراعات الدولية، إلا من طريق خطابة المظلومية والحقوق السليبة التي لا يأبه العالم بها، وخصوصًا سيدة العالم الولايات المتحدة الأميركية. أما خطابة المظلومية فسندها الوحيد أمجاد إمبراطورية عربية وإسلامية أَفَلَتْ وطواها الزمنُ والعالم زورًا وبهتانًا، وليس على العالم الظالم والمتآمر سوى أن يُصحّح أخطاءه، ويعيد الحق السليب إلى أهله ونصابه القويم. فيتسعيد العرب قوّتهم ومنعتهم، ويستعيد العالم الأمن والسلام وينعم بالوئام والطمأنينة. وهكذا اقتصر الفعل السياسي العربي على التذكير بالأمجاد واستعادة أطيافها، وعلى خطابة المظلومية الدائمة، فتحوّلت السياسة إلى خطابة.

لما انتصرت ثورة إيران الخمينية الإسلامية، سارع مثقفون عرب إلى الذوبان في تيارها واستلهامها، بوصفها جوابًا ناجعًا على الخروج من الضعف العربي. أما بعد ما برزت إيران قوة إقليمية فاعلة في جوارها، اعتمادًا على استقطابها واستتباعها جماعات مذهبية في بلدان ودول عربية ضعيفة ومفكّكة أصلًا، وزادها الاختراق الإيراني تفكُّكًا، وقوّض تماسكها الشكلي الهش، فلم يبادر العرب إلى غير الشكوى والعتب على القوة الأميركية العظمى التي تسمح لإيران بأفعالها. بعد شروع إيران في تصنيع سلاح نووي، وشروع أميركا في مفاوضتها لتقييد برنامجها النووي، جدّد الشكوى العربية من أميركا والعتب عليها لأنها لم تُراعِ مصالح دول عربية متضرّرة من أفاعيل إيران الإقليمية. وهذا على خلاف ما فعلت وتفعل إسرائيل مثلًا: مبادرتها إلى الضغط على أميركا، وإلى أعمال عسكرية وأمنية ضد إيران، لتعطيل مقدرتها على امتلاك سلاح نووي.

المنشقون الإيرانيون

لكن بعض الكتّاب والباحثين والخبراء الإيرانيين المنشقّين عن الخمينية والخامنئية، والفارّين من بلدهم والمقيمين في أوروبا والولايات المتحدة، فغالبًا ما يقدّمون في مقارباتهم السياسات الأميركية حيال طهران، وكذلك السياسات الإيرانية، فهمًا مختلفًا تمامًا عن الفهم العربي ومظلوميته الخطابية. فبدل قصرهم مقارباتهم على ملامة أميركا باعتبارها قوة عظمى تمتلك مقدرة مطلقة على تطويع الجمهورية الإسلامية وقصرهم نظرتهم إلى إيران الخامنئية على شيطنتها، ينتهجون نهجًا تحليليًا وضعيًا عقلانيًا متعرّجًا ومتشعّبًا في عوامله ومعطياته المستمدّة من التحولات والتغيّرات والمصالح السياسية الدولية والإقليمية. ومن هؤلاء الإيرانيين المنشقين الكاتب والباحث أمير طاهري، وكريم سجادبور الأستاذ المساعد في جامعة جورج تاون، وزميل مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، الذي تُركّز أبحاثه على إيران والسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط.

يكتب سجادبور مقالات في صحيفة نيويورك تايمز، ويمكن تلخيص رؤيته بجوابه على السؤال الأساسي الآتي: ماذا يمكن أميركا أن تفعل طالما لم تنجح محاولاتها استيعاب إيران وحملها على الدخول في النظام العالمي، ولم ينجح أيضًا عملُها على عزلها وخنقها بالعقوبات والحصار، بغية زعزعة نظامها إيذانًا بتغييره؟ وينطوي هذا السؤال على أن أميركا لا تمتلك مقدرة مطلقة في السياسات الدولية والإقليمية، بل إن قوتها تقيّدها اعتبارات وعوامل كثيرة. وهو ينطوي أيضًا على أن إيران تمتلك قدرة فاعلة في استدراجها أميركا إلى اتباع هذين القطبين المتعارضين في سياساتها الإيرانية، بمقادير متفاوتة تتحكم بها طهران وتمنع الولايات المتحدة من النجاح في أيٍّ منهما.

فشلت محاولات الإدارات الأميركية المتعاقبة في إقناع إيران بإعادة النظر في روحها الثورية أو برنامجها الثوري. وذلك لأن النخبة الإيرانية الحاكمة على يقين بأن إقدامها على التطبيع مع أميركا والانضواء في النظام الدولي، يزعزعان نظامها

إيران الثورية ومثالها البوتيني

يرى سجادبور أن الأصوليين الذين حوّلوا إيران دولة دينية إسلامية ثيوقراطية معادية لأميركا، لديهم عزيمة قوية صلبة. فأحد الثوار الخمينيين من الجيل الأول، أي المرشد الإيراني علي خامنئي البالغ من العمر 83 سنة، لا يزال يقود بلاده ويحكمها منذ العام 1989. ومن أسباب طول عمره يقظته ووحشيته المفرطة في الحكم، ليقينه أن كثيرين في بلاده وفي أقوى دول العالم يطمحون إلى الإطاحة به. ومعاداة أميركا مركزية في هوية إيران الثورية ونظامها. وقلة من دول العالم أنفقت مثل إيران ولاية الفقيه ما يفوق رأسمالها السياسي لتقويض ركائز النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

ولفهم كيف تصوّرت الجمهورية الإسلامية أن مغامراتها يمكن أن تكون بلا عقاب، يضرب سجادبور مثالًا: مغامرات بوتين العسكرية التي قام بها في جورجيا وشبه جزيرة القرم وسوريا بلا تعرّضه للعقاب. وهذا ما أقنعه أخيرًا باجتياح أوكرانيا. أما رسوخ قوة وكلاء إيران الإسلامية في لبنان والعراق وسوريا واليمن، إضافة إلى انسحاب أميركا المهين من أفغانستان، فأقنعت إيران الخامنئية بتراجع أميركا وانكفائها الحتميَّين.

وهذا رغم أن القاسم المشترك بين النظام الإيراني ومناطق نفوذه الإقليمي، استيطان ظواهر كثيرة فيها: التضخُّم، الفساد، سوء الإدارة، هجرة الكفاءات، انعدام الأمن، الفشل الاقتصادي، والتعاسة الشديدة. لكن هذا كله لم يمنع إيران الإسلامية من إصرارها على المضي قدمًا في برنامجها الثوري الذي كلّفها 200 مليار دولار من عائدات نفطها المفقودة، أي التي صُرفت لتوطين تلك الظواهر كلها في الديار الإيرانية وفي جوارها الإقليمي. وهذا هو برنامجها الثوري الذي تريد تدعيمه بالبرنامج النووي، بغية تمتين تقويضها النظام الدولي ومقارعة أميركا.

كيف تفكّر وتسلك طهران؟

حسب سجادبور فشلت محاولات الإدارات الأميركية المتعاقبة في إقناع إيران بإعادة النظر في روحها الثورية أو برنامجها الثوري. وذلك لأن النخبة الإيرانية الحاكمة على يقين بأن إقدامها على التطبيع مع أميركا والانضواء في النظام الدولي، يزعزعان بالتأكيد نظامها وسلطانها الثيوقراطي الداخلي والإقليمي، القائمين على مبدأ العداء للإمبريالية الأميركية والحرب عليها. وجوابًا منها على فشلها الديبلوماسي هذا، لجأت أميركا إلى سبيل آخر في سياساتها الإيرانية: مواجهتها بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية عليها، على أمل عزلها وخنقها وإضعاف قوة أذرعها الإقليمية، طالما أنها ترفض الصدوع ديبلوماسيًا للانضواء في النظام الدولي. وفي هذه الحال تبادر طهران إلى تقديم تنازلات محدّدة ومدروسة، من دون أن تغيّر نظرتها إلى نفسها والعالم. وذلك لأن النظام الإيراني موقن بأنه لا يزدهر إلا في العزلة. وازدهاره يجعله غير قابل للتجاهل، طالما أنه نظام عقائدي يصعب احتواؤه، وطالما أن خامنئي يدرك أن التقارب مع أميركا يشكل تهديدًا وجوديًا لنظامه أكثر بكثير من استمراره في حرب باردة مع الولايات المتحدة.

إيران خامنئي وكذلك أميركا في دوّامة مستمرة من تأرجح خياراتهما التي يتشارك الطرفان في صناعتها. وقد تكون طهران هي العين الساهرة على استمرار هذه الدوّامة التي جرّت أميركا إليها

وإذا كانت النخبة الثورية الإيرانية قد ازدهرت في عزلتها النسبية، لماذا لا تلجأ أميركا إلى تقويض ازدهارها بفك العزلة عنها وتطبيع العلاقة بها؟

هذا السؤال يفترض ضمنًا أن أميركا قادرة من جانبها ووحدها على القيام بذلك، بصرف النظر عن موقف إيران، وكأنها لا تملك قرار القبول أو الرفض. هذا غير صحيح، لأن ليس من مثال واحد معروف يؤكد أن المرشد علي خامنئي لا يملك قرارًا في ذلك، أي في الاستجابة إلى حوارٍ يسمح بتطبيع العلاقات أو برفض تطبيعها. فما تسعى إليه النخبة الإيرانية وتريده، هو التأرجح بين القبول والرفض، وبين العزلة والتفاوض على الانفتاح وفك العزلة.

ولشرح كيف تفكّر وتسلك طهران، ينقل سجادبور عن روبرت كوبر، الديبلوماسي الأوروبي الذي فاوض إيران، قوله: القوى الثورية لا تفكر بالطريقة التي يفكر بها الآخرون. فهي لا تريد مكانًا لها مختلفًا في العالم عن المكان الذي تختاره، بل تريد عالمًا مختلفًا عن العالم القائم. لذا ينبغي عدم التفكير في السعي إلى تغيير نظرة القوى الثورية إلى العالم، لأنه غير مجدٍ. المجدي هو المبادرة إلى فعل شيء ما، عندما تحين لحظة بدء هذه القوى في الشك بثوريتها واحتمال الخروج منها وتجاوزها. لكن هذه اللحظة المواتية لم يحن وقتها بعدُ في طهران، ويصعب تعيين متى تحدث وتحصل.

يروي سجادبور أن الممثل الأميركي شون بن أخبره عن عشاء جمعه بفيديل كاسترو الذي قال له مازحًا: إذا رفعت أميركا الحظر المفروض على كوبا، سوف أفعل في اليوم التالي شيئًا ما يستفزّها كي تعيد الحظر. ذلك أن كاسترو يدرك أن احتفاظه بسلطته يتطلّب أن تكون بلاده فقّاعة معزولة عن الرأسمالية الدولية وعن المجتمع الدولي المدني. خامنئي مثل كاسترو يعلم أن الخطر الأكبر على ثيوقراطيته ليست عزلة بلاده، بل تكاملها مع العالم. أما حين تصير العزلة منهكة لنظامه، فيستعد للنظر في صيغةٍ تكتيكية تخفّفها. وهذا ما تستجيب له خطأً أميركا. فالوضع المناسب لخامنئي هو مقدار ما من العزلة ومثله من التفاوض لفك العزلة. فهو لا يريد أن يكون مثل كوريا الشمالية ولا مثل دبي، بل أن يستطيع بيع نفط إيران في السوق الدولية بلا عقوبات، لكن من دون دمجها في النظام العالمي. أما محمد خاتمي فقال مرة لسجادبور إن خامنئي قال له إن الجمهورية الإسلامية تحتاج إلى معاداة أميركا حاجتها إلى التفاوض معها. فالتفاوض لن يُفضي إلى خسارة اقتصادية وإيديولوجية أو روحية، طالما لا يؤدي إلى المس بمبادئ الثورة.

إقرأ أيضاً: “الحرس الثوري” يقبض على “الجماعة الإسلامية”

وقال الأميركي إريك هود في كتابه “المؤمن الحقيقي: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية”، إن الكراهية هي أسهل الوسائل وأكثرها نجاعةً وشمولًا في مقدرتها على توحيد هذه الحركات.

ماذا يعني هذا كله؟ إنه يعني أن إيران خامنئي وكذلك أميركا في دوّامة مستمرة من تأرجح خياراتهما التي يتشارك الطرفان في صناعتها. وقد تكون طهران هي العين الساهرة على استمرار هذه الدوّامة التي جرّت أميركا إليها. والدليل هو تاريخ الجمهورية الإسلامية المستمر على مدى عقود أربع من “اللعب على حافة الهاوية”. وهي لا تميل إلى المساومة إلا تحت ضغط شديد. لكن الضغط إياه والعزلة يساعدان في إبقائها على قيد الحياة.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…