لم يكن مألوفاً لمتابعي جولات فيينا المتعلّقة بمفاوضات الاتّفاق النووي ما ذهب إليه البيان الثلاثي الذي صدر عن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا من تبنّي خيارات أخرى ستبحثها الدول الثلاث مع شركائها الدوليّين للتعاطي مع إيران. إنّ الدول الثلاث، التي طالما جهدت في التسويق لإعادة إحياء الاتّفاق وتقديمه كضرورة، وفي كبح جموح المواقف الإسرائيلية الداعية إلى وقف التفاوض مع طهران، اعتبرت هذه المرّة أن لا سبب يمنع إيران من اغتنام الفرصة الدبلوماسية، وأن لا اتّفاق مع طهران في المستقبل القريب.
لم يكن مألوفاً لمتابعي جولات فيينا المتعلّقة بمفاوضات الاتّفاق النووي ما ذهب إليه البيان الثلاثي الذي صدر عن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا من تبنّي خيارات أخرى ستبحثها الدول الثلاث مع شركائها الدوليّين للتعاطي مع إيران
إسقاط إيران النوويّة
كان الهدف الأوروبي واضحاً في تصريح المستشار الألماني أولاف شولتز خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد: “كلّنا نتّفق على أنّ من المهمّ ألّا تطوّر إيران أسلحة نووية، ولا صواريخ قادرة على نقل هذه الأسلحة، هذا هو هدفنا الكبير”، مضيفاً أنّ “العودة إلى الاتّفاق النووي بالشروط الحاليّة خطأ فادح سيؤدّي إلى زعزعة الشرق الأوسط، وخلق سباق تسلّح قد يعرّض العالم كلّه للخطر”، وأنّ “هناك طريقاً آخر يجب اتّخاذه، وقد ناقشنا الحاجة إلى استراتيجية جديدة لوقف برنامج إيران النووي”.
في ميدان آخر متّصل بالأمن الأوروبي، تقدِّم متغيّرات الميدان في ساحة القتال المفتوحة في الشرق الأوكراني نموذجاً لنجاحات أوروبية وأميركية في مواجهة الغزو الروسي أدّت إلى تراجعات كبيرة لموسكو وألزمتها خسارة آلاف الكيلومترات لقاء الحفاظ على حياة جنودها وهدّدت حلمها في تحقيق استقلال الدونباس.
أوروبا أمام العجز الدبلوماسيّ
إنّ الانغماس الكلّيّ للاتّحاد الأوروبي وحلفائه في دعم أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً، ودعم دوله لتجاوز صعوبات الطاقة المرتقبة، يدلّ على استشعار أوروبي بحراجة المرحلة المقبلة وعجز الخيار الدبلوماسي. وما المؤشّرات التي حملها الاجتماع الأخير لمجموعة الاتّصال الدفاعية المعنيّة بأوكرانيا الذي عُقد في “قاعدة رامشتاين الجويّة الأميركية” في ألمانيا وجمع 48 دولة ومنظّمتين دوليّتين، وانتهى إلى اتّخاذ قرار بتنشيط القواعد الصناعية الدفاعية وتنسيق عملها لضمان دفاع فعّال عن أوكرانيا، سوى دلائل على أنّ أوروبا قد تغيّرت سريعاً، وأنّ الخطر المحدق بوجودها ودورها برمّته قد أضحى حقيقة ثابتة.
بصرف النظر عن مدى النجاحات المنتظرة، سواء في الملف النووي أو في أوكرانيا، تنتقل أوروبا بأقطابها، ولا سيّما فرنسا وألمانيا، من ذهنيّة “المحافظة على الستاتيكو ومحاولة استثماره”، التي وسمَت علاقاتها الدولية وطريقة تعاطيها مع الأزمات وظهرت في محاولاتها الدائمة لترميم الاتّفاق النووي ودورها وموقفها من الحرب السورية وسائر أزمات المنطقة، إلى خيار المواجهة المتحفّزة بعد سنوات من التهميش عاشتها في كنف الولايات المتّحدة منذ انتهاء الحرب الباردة.
يمرّ المزاج الدوليّ برمّته بمرحلة انقلابيّة على كلّ المراحل السابقة بثوابتها وأولويّاتها وتحالفاتها نتيجة الإخفاقات في إدارة الأزمات، ولا سيّما منها الاقتصادية والسياسية، واعتماد استراتيجيات الصدام الإثنيّة والدينية وتفجير الأنظمة من الداخل والإفقار المتعمّد سبيلاً للسيطرة على مقدّرات الدول. ففي تشرين الأوّل الماضي، ألمح المبعوث الأميركي الخاصّ إلى إيران روبرت مالي في محادثة مع آرون ديفيد ميللر من “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي” إلى أنّ فريق إدارة بايدن المعنيّ بإيران يعمل على “الخطة ب”.
كان الهدف الأوروبي واضحاً في تصريح المستشار الألماني أولاف شولتز خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد: “كلّنا نتّفق على أنّ من المهمّ ألّا تطوّر إيران أسلحة نووية، ولا صواريخ قادرة على نقل هذه الأسلحة، هذا هو هدفنا الكبير”
إيران في ساحات الاضطراب
إنّ مقاربة مزدوجة للحرب الدائرة في أوكرانيا من جهة، والمفاوضات النووية التي وصلت إلى طريق مسدود والموقف الأوروبي الواضح من امتلاك إيران قنبلة نووية أو من مشروعها الصاروخي من جهة أخرى، تقدّم مجموعة من القواسم المشتركة بينهما، سواء على مستوى التحالفات القائمة أو على مستوى صراع المصالح، وتسمح بتبلور محورين متقابلين بحيث تبدو إيران بمواقفها الحالية هي المعطى الأبرز والنقطة الأكثر سخونة في التقاطع بينهما. إيران الحاضرة في الساحة النووية والمتمرّدة على قرارات الوكالة الدولية، هي حاضرة أيضاً في كلّ ساحات الاضطراب الإقليمي والدولي، ومنها الساحات الأوروبية في أوكرانيا، وأخيراً في ألبانيا، وهي الاختبار العربي الملزم أمام تطوير العلاقات الأوروبية والأميركية بالدول العربية.
تفتح استراتيجية المواجهة التي انتقلت إليها أوروبا، ليس على المستوى الأوروبي فحسب، بل في مسألتَيْ السلاح النووي والصواريخ الإيرانية، الباب واسعاً أمام تطوير العلاقات العربية الأوروبية، ويتبلور دور أوروبي جديد معنيّ بالأمن الإقليمي ليس من موقع الوسيط المهادن، بل من موقع المتدخّل، ولا سيّما من بوّابة الغاز في شرق المتوسط ببعدَيْه الاقتصادي والأمني وانعكاساته على المجال الحيويّ لأوروبا. ويلتقي هذا التوصيف للدور الأوروبي الجديد مع تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس بعد لقائه الأمين العامّ للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش في نيويورك في مطلع الأسبوع الحالي، لبحث تشكيل جبهة دولية لمواجهة تحديّات أبرزها “التهديد الإيراني” ووجوب “توسيع التعاون مع الشركاء الإقليميين لمواجهة إيران.. وضمان قوّة عسكرية ذات مصداقية للردع بغضّ النظر عن الحلّ الدبلوماسي..”.
إقرأ أيضاً: “الباسيج” يعاند المرشد ويتصدى للسياسة؟
فهل تتعايش أوروبا الجديدة التي تعقد الآمال على غاز المتوسط مع الصواريخ الإيرانية في لبنان وسوريا أم تصبح رأس حربة في قيادة دور أمنيّ أوروبي في شرق المتوسط؟
* مدير المنتدى الإقليميّ للدراسات والاستشارات