مع غياب المفكّر العلّامة السيّد محمد حسن الأمين العام الماضي، بدا المسرح الشيعي الروحي في لبنان وكأنّه أصبح شبه خالٍ. فالعلّامة الأمين، بعد الإرث النضالي والموسوعي الذي تركه، يُعيد إلى الأذهان وطأة غياب الكبار بدءاً من الإمام موسى الصدر، مروراً بالشيخ محمد مهدي شمس الدين، وصولاً إلى السيد محمد حسين فضل الله.
إنّه العالِم الذي قرن المعرفة بالشجاعة لقول ما يجب قوله بوجه سلطان جائر، وكرّر الدعوة مراراً في حياته إلى تنكّب هذه المهمّة.
مع غياب المفكّر العلّامة السيّد محمد حسن الأمين العام الماضي، بدا المسرح الشيعي الروحي في لبنان وكأنّه أصبح شبه خالٍ
سحور عراقيّ
ووفر “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي” الأسبوع الماضي مناسبة إحياء الذكرى الأولى لغياب السيد محمد حسن الأمين، بعد ثلاثة أعوام من الإقفال جراء إنعدام الموارد. فانطلقت مجدّداً رحلة العيش في فضاءات فكر الراحل وأعماله. وخلال هذه الرحلة تلقّى “أساس ميديا” نسخة عن مقابلة أجرتها قبل أعوام قناة “السومرية” التلفزيونية الفضائية مع العلّامة في مسقط رأسه شقرا الجنوبية، ضمن برنامج رمضانيّ حمل عنوان “سحور عراقيّ”.
خلال اللقاء سئل السيد الأمين عن رجال دين سُنّة متنوّرين، فاستحضر فوراً اسم الشيخ عبد الله العلايلي واصفاً إيّاه بـ”العَلَم المشهور”. ولفت إلى أنّ الانتقادات التي واجهها العلايلي، كما واجهها هو، كانت بسبب أنّ “من يريد أن يكون مستقلّاً يطاله الكثير من الهجمات والنقد غير البنّاء”.
وسئل أيضاً: هل أنت مع خروج بشار الأسد من الحكم أم مع بقائه؟ فأجاب: “بكلّ صراحة لا أميّز بين بشار الأسد وصدّام حسين ومعمّر القذّافي. أنا أعتبر أنّ هؤلاء نماذج صادقة جدّاً في تعبيرها عن الدكتاتورية والبغي اللذين تحصد نتائجهما شعوبنا وتاريخنا منذ قرون عدة، وما يزالان حتى الآن”.
سأله محاوره عن رأيه في نظرية “وليّ الفقيه” المعتمدة في إيران حالياً، فأجاب: “أنا لست مع ولاية الفقيه إطلاقاً. أعتقد أنّها دعوة إلى السلطة الدينية، وأنا ضدّ السلطة الدينية. السلطة شأن بشري وليست شأناً روحيّاً إلهيّاً. أعتقد أنّ مسألة وليّ الفقيه في إيران مرحلة وستنتهي”.
عن موقفه من “المقاومة الإسلامية” في لبنان قال الأمين: “أمجّد كلّ أشكال المقاومة. وأنا كنت جزءاً من المقاومة وربّما أكثر، ويعرفون ذلك، وما زلت في هذا الموقع. لكنّ الخلاف يتعلّق بوجهة نظر، فأنا كنت من الداعين إلى أن تكون المقاومة غير مذهبية وغير مسيّسة لتمكين اللبنانيين كلّهم من أن يكونوا مقاومين، وهم كانوا كلّهم مقاومين. أمّا أن تصبح المقاومة حكراً على طرف أو فريق، فأعتقد أنّ هذا يمجّد هذا الفريق ويجعلنا نحترمه، لكن في الوقت نفسه نعتقد أنّه يفوّت على المقاومة فرص الالتفاف غير المذهبي وغير الطائفي حولها، فضلاً عن الالتفاف العربي والإسلامي. في الحقيقة كان هذا مبدأ منظمة التحرير الفلسطينية، وأنا من المؤيّدين لها ولحركة فتح. ربّما ما جذبني إليها هو أنّها ليست حزباً”.
حزب الله يقاوم الشعب السوري
ماذا عن مقاومة “حزب الله” المرتبطة بولاية الفقيه، أجاب: “هذا خطأ الحزب، لكن لا يمكن أن ننكر أهميّة مقاومته ودورها الفعّال في كبح غطرسة العدو الصهيوني، سواء بالنسبة إلى لبنان أو فلسطين نفسها. لذلك أنا أؤيّد المقاومة تأييداً كاملاً. لكنّني في الوقت نفسه أعتقد أنّ المقاومة لا يمكن أن تكون حكراً على فريق دون آخر”.
وفر “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي” الأسبوع الماضي مناسبة إحياء الذكرى الأولى لغياب السيد محمد حسن الأمين، بعد ثلاثة أعوام من الإقفال جراء إنعدام الموارد. فانطلقت مجدّداً رحلة العيش في فضاءات فكر الراحل وأعماله
أمّا عن تدخّل “حزب الله” في دمشق والكلام عن أنّه لولا تدخّله هناك لكان تنظيم “داعش” وصل إلى بيروت، فقال: “لست مع القول إنّ داعش كان سيصل إلى بيروت لو لم يتدّخل حزب الله. وأكاد أكون مع القول الآخر المضادّ: تدخّل حزب الله في سوريا هو الذي يمكن أن يجلب داعش إلى لبنان. لذا أنا ضدّ هذا التدخّل الذي هو موقف مستغرَب جدّاً من الإخوة في حزب الله، لأنّني أفترض أنّ الحزب مع المستضعفين ومع الشعوب المقهورة، والشعب السوري كلّنا نعرف أنّه شعب مقهور ومستعبَد منذ 50 عاماً، منذ أن وُجد هذا النظام السياسي. لذا كيف يمكن لحزب يعمل على إقامة العدل في هذه الأرض أن يقف إلى جانب حاكم في مواجهة شعب؟! إنّ حزب الله لا يقاوم داعش والنصرة فحسب، بل ويقاوم كلّ من هو ضدّ النظام في سوريا”.
أطلالة النجف على فلسطين
كانت فلسطين في عقل العلّامة الأمين ووجدانه. وخلال تكريمه في “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي”، تحدّث الكاتب حسن فحص نجل السيّد هاني فحص عن قضيّة العرب الكبرى التي كانت في سيرة السيّدين ومسارهما: “النجف كشفت الكثير من خفايا شخصية السيّدين… فيطلّان من هناك على فلسطين ليلتقيا في فلسطين التي لم يستطِع السيّد الأمين أن يميّز بينها وبين الحبيبة، فقال: “لأنّا اثنان في الساحة، لأنا اثنان/لا ظلّ ولا واحة.. نفيء إليها/لا شمس تركض في بيادرنا… لا قمر يَهدِينا/ويافا في خواطرنا، تحجّر وجهها وتهدّلت أغصان واديها/وجلّلها الغياب فما لنا فيها سوى ذكرى… تَعَثَّرَ بالتراب جَنَاحها، واجترّها النسيان/فلا شجر يُضيء البرتقالُ على ذوائبه ولا الأصحاب والخلّان”.
من فلسطين إلى لبنان، وعلى مدى عقود، يشدّد الدكتور أنطوان سيف على “رحلة العلّامة للتحرّر من الجهل، وعلى عشقه الحرّية ونصرته الحقّ بوجه الباطل، وحمله لواء المحبّة والرحمة، إضافة إلى نضاله في ترسيخ العيش المشترك وثقافته الوطنية والإسلامية وتميّزه باعتباره نموذجاً لبنانياً راقياً للشيخ المعمّم بالوقار”.
في عمق سيرته الوطنية، كان العلّامة الراحل داعية إلى “سيادة الدولة كمدخل رئيسي لإصلاح النظام اللبناني”. يقول الأمين: “إنّ أيّ نشاط إصلاحي يجب أن يصبّ في هدف واحد: الحفاظ على سيادة الدولة من جهة، وعلى عدم حصر التمثيل السياسي بأحزاب محدّدة، خاصّة أنّ هذه الأحزاب هي أحزاب طائفية وتستند في وجودها إلى العصب الطائفي”.
سعيد عقل والأمين
وروى الدكتور محمد علي مقلّد، أنّ أحد شروط الشاعر سعيد عقل للمشاركة في فعّاليات ندوة في صيدا سنة 1994 أن يقدّمه السيّد محمد حسن الأمين، فلبّى السيّد الطلب. وسعيد عقل هو الذي قال يوماً عن السيّد محمد حسن: “لا يقول هذا الشعر سوى مبدع، الآن سأموت وأنا مطمئنّ إلى أنّ هناك من سيكون جديراً برثائي”.
إقرأ أيضاً: الخميني في لبنان برعاية عرفات.. لولا رفض الأسد
في ذكرى السيّد الأمين، فُتحت الأبواب على عالِم موسوعي. ومؤلّفاته “الاجتماع العربي الإسلامي”، “نقد العلمنة والفكر الديني”، “بين القوميّة والإسلام”، “الإسلام والديمقراطية”، “مساهمات في النقد العربي”، “وضع المرأة الحقوقي بين الثابت والمتغيّر” وغيرها الكثير هي غيض من فيض موسوعيّته.
إنّها عمامة شيعية عالِمة وشجاعة غادرتنا. لكنّ صوتها في وجه عتاة الزمن اللبناني والعربي والإسلامي سيبقى مدوّياً.