تحوّلت مأساة غرق زورق المهاجرين قبالة ميناء طرابلس إلى “مُنتَج انتخابيّ” خالص أقنع من خلاله الوزير السابق أشرف ريفي أهالي الضحايا، قبل الانتخابات، بأنّ انتشال جثث الضحايا وتحديد مكان الزورق ممكن من خلال كاميرات متخصّصة. وأقنعهم بعد الانتخابات بـ”أنّ شركة هنديّة يمكنها القيام بالمُهمّة و”القوّات” اللبنانية ستتابع القضية معنا بالشراكة مع الأهالي والمغتربين من أبناء المنطقة في أستراليا، الذين أبدوا كامل الاستعداد لتحمّل جزء من النفقات، ونحن نتكفّل بالجزء المتبقّي”.
فعليّاً، بعد شهر تماماً من غرق زورق المهاجرين في 23 نيسان الماضي لم يعُد هناك أيّ إمكانية لسحب الزورق والعثور على أيّ مفقود في ظلّ عدم ختم التحقيق العسكري في الملفّ المفتوح حتى الآن.
تنفي أوساط ريفي دفع أموال كـ”رشوة انتخابية”، مؤكّدة أنّ ريفي سيتابع هذه القضية حتى النهاية
تشير معلومات “أساس” إلى أنّه من ضمن سلسلة كتب أرسلتها قيادة الجيش إلى عدد من الدول التي يمكن أن تقدّم المساعدة التقنيّة لسحب الزورق، أتى الردّ الوحيد من شركة بريطانية متخصّصة في العمل في عمق البحار وطلبت نحو مليونَيْ دولار لتنفيذ المهمّة.
أمّا في تقدير الجيش، الذي تمكّن منذ البداية من رصد البقعة الجغرافية للمركب، فإنّ الزورق يقبع على عمق نحو 470 متراً، ولذلك يصعب كثيراً سحبه بوسائل غير متطوّرة وحديثة جدّاً.
يُقدّر أنّ ما لا يقلّ عن 86 شخصاً من الجنسيات اللبنانية والسورية والفلسطينية كانوا على متن القارب، وقد تمّ تشييع ستّ ضحايا منهم. أمّا عدد الناجين فبلغ 45 شخصاً، وعدد المفقودين نحو 35.
في جلسة عقدها قائد الجيش العماد جوزف عون في مكتبه في اليرزة مع عدد من أهالي الضحايا شَرَح الأسباب المُباشرة لغرق الزورق الذي كان سيحدث، بتأكيده، حتى لو لم يعترض الجيش المركب، وسيؤدّي إلى غرق كلّ مَن كان على متنه، وتعهّد بأخذ القضية على عاتقه الشخصي. ثمّ تلقّف ريفي أهالي الضحايا مقدّماً إليهم عشيّة الانتخابات النيابية مبلغ عشرة آلاف دولار لشراء كاميرات تساعد، كما قال لهم، في تحديد مكان الزورق وانتشال الضحايا.
مبادرة فردية لانتشال الغرقى
كان أهالي الضحايا قد عقدوا مؤتمراً صحافياً في 6 أيار تحدّثوا فيه عن “اتّخاذنا مبادرة فردية لانتشال الجثث، فاستأجرنا كاميرات تصل إلى عمق 500 متر، لنتمكّن من تحديد مكان غرق المركب، وسننتشله على نفقة أهالي الضحايا دون سواهم”.
طبعاً لم يحدث هذا الأمر، وأطلّ لاحقاً أشرف ريفي من معراب معلناً عن توجّهٍ إلى الاستعانة، بالتعاون مع القوّات، بشركة هندية ستنفّذ المهمّة.
تنفي أوساط ريفي دفع أموال كـ”رشوة انتخابية”، مؤكّدة أنّ ريفي سيتابع هذه القضية حتى النهاية، لأنّ هناك تقاعساً رسمياً فاضحاً في متابعتها، وأنّ التواصل قائم مع مسؤولين في الشركة الهندية كي تتولّى مهمّة سحب المركب والبحث عن المفقودين، وأنّه يجري العمل على تأمين التمويل.
كشفت التحقيقات، وتحديداً في حادثة غرق الزورق الأخيرة، دفع مبالغ طائلة وصل بعضها إلى 25 ألف دولار للانتقال من ميناء طرابلس إلى إيطاليا
ثمّة نموذجان فاقعان يفضحان المستور: أشرف ريفي يُقدّم ثمن كاميرات كرشوة انتخابية لأهالي الضحايا، والدليل أن لا كاميرات ولا شركة هندية ولا مَن يحزنون. والنائب جبران باسيل يستغلّ حادث غرق الزورق ليشنّ هجوماً مباشراً على قائد الجيش في لحظة سياسية مفصليّة على بعد أشهر من الانتخابات الرئاسية، وخلال مرحلة يتحمّل فيها الجيش العبء الأمني الأكبر والأكثر خطورة منذ التسعينيات بفعل الأزمة الماليّة الكارثية وانسداد الأفق أمام أيّ حلّ على المستوى السياسي.
هجوم باسيل على عون
لن يكون تفصيلاً أن يُعاكس باسيل توجّه جميع رؤساء الأحزاب والقوى السياسية، ليضع الجيش في قفص الاتّهام معتبراً أنّ “عدم المحاسبة بانفجار المرفأ وبحادثة التليل وبحوادث كثيرة أوصلت الجيش إلى حادثة الزورق، وستوصله إلى أكثر من ذلك إذا بقي الاستهتار”.
أمّا الوجه الآخر لهذه المأساة فيُشكّل إدانة لكثيرين، وفي آخر طرف اللائحة الجيش، إذا أثبت التحقيق فعلاً وجود تقصير أو خطأ أو سوء تعاطٍ مع مركب المهاجرين أدّى إلى الكارثة. وستكون المحاسبة في هذه الحال “حتميّة”، كما وَعَدَ قائد الجيش أهالي الضحايا.
هكذا تجري الاحتفالات بالانتصار بنتائج الانتخابات النيابية فيما لا يزال عدد من مفقودي الزورق في قاع البحر، وكلّ التقديرات الأمنيّة تشير إلى أنّهم غرقوا وهم داخل القمرة في الطابق السفلي للمركب.
مسؤولية الطبقة السياسية
هي مأساة تُدين طبقة سياسية جدّدت لنفسها في صناديق الاقتراع، ولسياسيّين ومتموّلين في طرابلس يتفرّجون على “مجالس عزائها” المفتوحة، ولشبكات تهريب يطاردها الجيش ويُوقف أفرادها ثمّ يتكفّل القضاء “الرخو”، تحت ضغوط سياسية وقحة، بالإفراج عنهم ليستأنفوا نشاطهم بزخم أكبر.
إقرأ أيضاً: حادثة غرق الزورق.. آل الدندشي جناة أم ضحايا؟
كشفت التحقيقات، وتحديداً في حادثة غرق الزورق الأخيرة، دفع مبالغ طائلة وصل بعضها إلى 25 ألف دولار للانتقال من ميناء طرابلس إلى إيطاليا. وهي مبالغ يستحيل أن يدفعها فقراء المدينة، خصوصاً في الوضع الماليّ الراهن.
يكشف هذا الواقع وجود مافيات تهريب “تشحن” البشر وكأنّهم “بضاعة تجارية” فقط من أجل الاستفادة الماليّة ومن دون توفير أدنى معايير السلامة. وغالباً ما يكون بعض الركّاب من أهل ومعارف أعضاء هذه المافيات، الأمر الذي يضاعف مسؤوليّتهم الجرميّة والجزائية.