تزامنت الانتخابات النيابية في لبنان مع أشرس وأقسى المعارك الفلسطينية الإسرائيلية، التي بدأت قبل رمضان وتواصلت بعده، وكانت ساحاتها في أكثر الأماكن حساسيّة على جانبَيْ الخط الأخضر، في القدس حيث جيش النشطاء والمصلّين، وفي جنين حيث البؤرة الأكثر اشتعالاً في الضفّة، وفي أماكن يعتبرها الإسرائيليون عمقاً آمناً، من بئر السبع في الجنوب إلى الخضيرة، وبينهما بني براك في تل أبيب.
كان استشهاد شيرين أبو عاقلة وبالكيفيّة التي تابعها العالم وما يزال، أقرب إلى ذروة دراما تجمّعت فيها كلّ عناصر الجذب والتعاطف، إذ لم يتّحد العالم على أمر قدر اتّحاده على التعاطف مع شيرين، وهو ما أحيا قضية كادت تُنسى في زحمة القضايا الساخنة التي يعجّ بها الكوكب.
تزامنت الانتخابات النيابية في لبنان مع أشرس وأقسى المعارك الفلسطينية الإسرائيلية، التي بدأت قبل رمضان وتواصلت بعده
غير أنّ الانشغال الفلسطيني بموسم الدم الذي لم يتوقّف، وبيوت العزاء التي أُقيمت في كلّ مدينة وقرية، وبالصلوات على الشهداء التي ما خلا منها مسجد أو كنيسة، فذلك لم يُثنِ الفلسطينيّين عن متابعة الانتخابات اللبنانية، ذلك أنّ للبنان مكانة خاصّة في تاريخهم وكفاحهم وحياتهم.
وهذا يندرج تحت بند الوفاء الأخلاقي، إذ لا ينسى الفلسطينيون مآثر الحقبة اللبنانية على مسيرتهم الصعبة، فمن ذلك البلد سافر الفلسطينيون إلى “قمّة العالم”، وبفعل احتضانه ودعمه اتّسع الحضور السياسي للقضيّة الأصعب وللثورة الأكثر صعوبة في تاريخ القضايا والثورات التي شهدها العالم.
لقد تابع الفلسطينيّون الانتخابات اللبنانية كما لو أنّها تجري في بلادهم، وإن لم يتبلور إجماع أو حتى أغلبيّة تدعم هذا الفريق أو ذاك وتتمنّى الفوز أو الإخفاق، إلا أنّ إجماعاً نادراً ميّز الاهتمام بالانتخابات اللبنانية، وهو الإعجاب بقدرة هذا الشعب المثخن بالجراح والواقف على شفا حفرة من الموت، على إنجاز انتخابات عامّة، وفوق ذلك نزيهة، وهو ما جعل كلَّ ما قيل عن خروقات، حدثت أو تمّ ادّعاؤها، مثالبَ ثانوية وحسب لم تقوَ على تشويه صورة الإنجاز.
معظم الفلسطينيين الذين تابعوا مسيرة الانتخابات اللبنانية، منذ بدأ الحديث عنها إلى أن أُنجزت، اتّحدوا على سؤال: لماذا لم تجرِ انتخابات مماثلة عندنا؟ لماذا لم يستأذن اللبنانيون أيّ قوة إقليمية أو دولية لإجرائها أو تأجيلها؟
الفلسطينيون الذين يشيّعون بقايا أوسلو كانوا قد أجروا انتخابات عامّة مرّتين، وكانت حرّة ونزيهة بشهادة العالم كلّه. وبين المرّتين أجروا عدّة انتخابات حرّة ونزيهة أيضاً على مستوى السلطات المحليّة التي لا تقلّ أهميّة في مدلولها وتأثيرها الوطني عن العامّة والرئاسية، وكذلك النقابيّة وآخرها بالأمس القريب انتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت، فلماذا والحالة هذه لا يُجري الفلسطينيون انتخابات عامّة في القدس بالتحدّي، وكانت جنازة شيرين أبو عاقلة مؤشّراً إلى ضمان كسبها حتى لو أطلقت إسرائيل النار على الصناديق، وفي سائر الضفّة وغزّة بتحدّي الذات أوّلاً، بجعلها الحاضنة الأمينة لإنهاء الانقسام، والإفادة منها بما هي رسالة للعالم كلّه بأنّ الفلسطينيين نجحوا في المعركة الحضارية بين صندوق الاقتراع وبندقيّة الاحتلال.
هذا السؤال تجدّد إشهاره وتداوله بفعل الإلهام اللبناني الذي هو الأكثر تأثيراً في رسم خطى الفلسطينيين وخياراتهم، خصوصاً في مجال الانتخابات. مَن الذي فاز ومَن الذي هُزِم؟ هذا يعرفه اللبنانيون وسيعرفه العالم حين تُرى المحصّلة الملموسة لِما أنجزته الانتخابات من تغيير نادت به انتفاضة شعبية مليونيّة أوصلت عدداً من روّادها إلى مقاعد المجلس النيابي.
إقرأ أيضاً: عندما يستشهد مسيحيّ من أجل القدس
إنّ ما يعني محبّي لبنان وأهله، وأوّلهم الفلسطينيون، أنّ الإلهام الذي أنتجته الانتخابات النيابية اللبنانية جسّد قوّة دفع معنوية هائلة لكلّ مَن يرى أنّ تقدُّم شعبه وبلده وقضيّته لا يتحقّق إلا بجعل الشعب هو سيّد القرارات، ولا يكون ذلك إلّا عبر صناديق الاقتراع من أصغر جمعية إلى أعلى قمم النظام السياسي.
أخيراً وبعدما كسب لبنان تحدّي الانتخابات فعليه أن يكسب تحدّي التغيير، وهذا هو أصعب وأهمّ ما في الأمر.