كان حزب الله صادقاً في خوض الانتخابات النيابية في لبنان على نحو متوتّر قلق لا يتّسق مع الزعم بـ”هيام” أغلبيّة اللبنانيين بالـ”المقاومة”. ولئن كان لهذا الارتياب أسباب ومعطيات محليّة لا تُعدّ ولا تحصى، إلا أنّ للهلع عبقاً إقليمياً عامّاً يستولي على ذلك “الهلال” الشهير من طهران إلى بيروت.
مُنِيَ الحزب، وفق نتائج حلفائه، وخصوصاً المسيحيين، بهزيمة لا لبس فيها ستُضاف إلى سلسلة الخسائر التي أصابت المحور الإقليمي الذي تقوده إيران. لا جديد في أنّ مناورات حزب الله اللبنانية، حتّى في تفاصيلها المناطقية، تصبّ بالنهاية في حسابات الحاكم في طهران. وإذا ما كانت الاهتزازات لدى الناخب الشيعي محدودة مع أهمّيتها ورمزيّتها، فإنّ ما لحق بامتدادات الحزب داخل الطوائف الأخرى هو أشبه بزلزال.
حزب الله يحتاج حُكماً إلى تأكيد أرجحيّة نفوذ إيران في لبنان. يحتاج ذلك من خلال قبضة برلمانية تيسِّر لطهران التحكّم ببوصلة البلد من خلال اختيار حكومته وانتخاب رئيسه وهذا ما لم يحصل عليه في انتخابات الأوّل من أمس في لبنان
على الرغم من سطوته وتجنّباً لمفاجآت الصدفة، خاض حزب الله المعركة الانتخابية بشراسة ضدّ خصومه مع أنّه يعرف، وفق تصريحات قياداته، أنّ الأحجام البرلمانية لا تغيّر شيئاً في بلد مثل لبنان، وأنّ التوافق هو ديدن البلد وسيرته.
هيمن الحزب على الحياة السياسية اللبنانية منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخصوصاً منذ حرب عام 2006، وتحديداً منذ “غزوة 7 أيار” عام 2008، بالسلاح و”القمصان السود” وما شابه ذلك من عُدّة الشغل. وعلى هذا فإنّ وهج السلاح “المقاوم” هو مَن انقلب على أغلبيّات، وهو مَن فرض أغلبيّات بديلة.
لكنّ الجديد أنّ هذا السلاح فَقَد هيبته وغابت عنه قدسيّته ولم يعد قادراً على منع تصاعد منابر الاعتراض على مساحة البلد، وداخل المكوّن الشيعي بالذات. ولا أوهام في أنّ تأثّر العملية الانتخابية بالمزاج المستجدّ لا يمكن أن يكون انقلابياً وأنّه ليس من السهل الإطاحة السلسة بما استثمره حزب الله بالمال والسياسة والعقيدة والخطاب على مدى العقود الأخيرة منذ ظهوره الأول في بداية الثمانينيّات.
أزمة الحزب من أزمة إيران
مهما كابر الحزب، فإنّه يعيش أزمة في لبنان هي جزء من أزمة إيران عموماً. وما أصاب الحزب في لبنان هو نفسه ما أصاب كلّ الجماعات الدائرة في فلك طهران في العراق. وإذا ما كانت مآلات النزال العراقي لم تنجلِ وما زالت ضبابيةً لا حسم داخلها على الرغم من أنّ واجهة الاعتراض الأولى هناك هي شيعية بامتياز، فإنّ التعقّد التقليدي البنيوي للنسيج المجتمعي المتعدّد الطوائف في لبنان يتيح لجنود الوليّ الفقيه في لبنان الاستمرار بالتحصّن داخل أسوار الطائفة وحصونها.
مهما سعت جماعات إيران إلى المناورة، فإنّها جميعها في مسار تراجع ودفاع. فقدت زمام المبادرة وتسعى وطهران إلى التقليل من الخسائر. يكفي تأمّل أداء تلك الجماعات بدءاً من اليمن وانتهاءً بلبنان لاستنتاج أنّها قلقة ذاهبة إلى تسويات الشراكة بأشكال متفاوتة، سواء في موافقة الحوثيين على الهدنة في اليمن، أو في انخراط “الإطار التنسيقي” في مساومات سياسية تردّ عنه “قدر مقتدى” (الصدر) في العراق، أو في استباق حزب الله في لبنان لنتائج الانتخابات قبل أشهر بالزهد بـ “الأغلبيّات” والتبشير بالتسويات التوافقية.
على أنّ حزب الله يحتاج حُكماً إلى تأكيد أرجحيّة نفوذ إيران في لبنان. يحتاج ذلك من خلال قبضة برلمانية تيسِّر لطهران التحكّم ببوصلة البلد من خلال اختيار حكومته وانتخاب رئيسه وهذا ما لم يحصل عليه في انتخابات الأوّل من أمس في لبنان. يحتاج أيضاً إلى أغلبية مريحة تتيح له القبض على تلك التوافقات التي يكتشفها، حتى لو أعاد شلّ البلد ومؤسّساته، بما فيها التشريعية المنتخبة، حتى تلد الأزمات ما سبق أن أثمرته في الدوحة من أعراف عام 2008 وما فرضته في لبنان من فراغ حتى انتخاب حليف طهران ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016. لكنّ ذلك بات متعثّراً.
ماذا عن فيينّا؟
سواء خرج دخان أبيض أو أسود من مداخن المفاوضات في فيينا، فإنّ طهران تحتاج، في عزّ تصاعد موجات الاعتراض الشعبي داخل إيران، إلى أوراق خارجية قويّة تحسّن من موقفها على طاولة الحوار مع الرياض وتقوِّي من موقعها داخل الخريطة الإقليمية التي تداهمها التحوّلات الدولية.
ولئن تراقب إيران عودة الحضور الخليجي والعربي إلى لبنان، فإنّها، على الأقلّ من خلال أداء حزبها في لبنان، لا تقوى على مواجهته وتسعى إلى التأقلم معه بما هو واقع، وذلك من ضمن توجّه حكومة إبراهيم رئيسي لتبريد جبهاتها الخليجية مواكبةً لأيّ احتمال ستنتهي إليه عودة مفاوضات فيينا التي ساهمت زيارة المبعوث الأوروبي إنريكي مورا لطهران في تفعيلها (وربّما بطلب إيراني كامل).
يقرأ حزب الله جيّداً “أمر العمليّات” الجديد الذي كشفته زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لطهران في 8 أيار. تُبلغ إيران من خلال هذه الزيارة مَن يهمّه الأمر من واشنطن إلى موسكو مروراً بتركيا وإسرائيل أنّها باتت، وبسبب تراجع الدور الروسي في سوريا هذه الأيام وما يتردّد عن سحب قوات روسية إلى الجبهات في أوكرانيا، صاحبة الرقم الصعب في هذا البلد، وأنّ تحالف طهران-دمشق ذاهب إلى مستويات حيويّة وواعدة.
إقرأ أيضاً: الفشل اللبنانيّ فشل عراقيّ وسوريّ أيضاً
إذا ما كان تطوّر الحوار السعودي الإيراني سيتناول موضوعيّاً الشأن اليمني، وإذا ما كانت اهتزازات العراق ما زالت تحت السيطرة وداخل حدود الممكن، فإنّ إمساك طهران بالورقة السورية هي فرصة تسمح بها لحظة دولية تاريخية نادرة لا يمكن إلا أن يعقبها تمدّد منطقيّ صوب لبنان. ولا يمكن هنا إلا للبنان-حزب الله أن يلاقيها للإطباق على مساحة كان يطيب لحافظ الأسد أن يكتشف أنّ سكانها “شعب واحد في بلدين”. لكنّ هزيمة حلفاء الحزب في لبنان انسحبت أيضاً على حلفاء دمشق في البلد أيضاً.
وفق مفاجآت الأحد يمكن السعي إلى قراءة الانتخابات بما فيها من جديد يحمل ماء إلى طواحين طهران، أو يعرقل ويربك جهد الوليّ وجنوده في المنطقة.
* كاتب لبنانيّ مقيم في لندن