على الرغم من كلّ المضامين السياسيّة للانتخابات النيابية تبقى المسلَّمة الأساسية التي يجب الانطلاق منها لقراءة نتائجها هي أنّ هذه الانتخابات أُجريت في ظلّ انهيار اقتصادي أفقر شريحة كبيرة من اللبنانيين، حتّى بلغت نسبة الأسر التي تفتقر إلى ما يكفي من المال لشراء الأغذية 77 في المئة بحسب الأرقام الأخيرة للأمم المتحدة.
على هذا الأساس يجب قياس المتغيّرات السياسيّة التي أفرزتها هذه الانتخابات، ولا سيّما المتغيّرَين السياسيَّين الرئيسين فيها، أي خسارة حزب الله وحلفائه للغالبية النيابية من دون أن تذهب هذه الغالبية إلى جبهة بعينها، وتحقيق القوى التغييرية فوزاً كبيراً وغير متوقّع، مع الأخذ في الاعتبار التباين في احتساب عدد المقاعد التغييرية حتّى من قبل التغييريّين أنفسهم، بين مَن يحتسب النائبين المنتخبَين في دائرة صيدا – جزّين أسامة سعد وعبد الرحمن البزري من ضمنهم، فيبلغ عددهم 16 نائباً، وبين مَن لا يحتسبهما فينخفض العدد إلى 14 نائباً. وثمّة من لا يحتسب النائب المنتخب في الدائرة نفسها شربل مسعد فينخفض العدد حينها إلى 13. وكلّ ذلك إن دلّ على شيء فعلى تداخل الخلفيّات السياسية وتناقضها في صفوف هذه القوى، وهو ما سينعكس على تقاطعاتها وافتراقاتها داخل البرلمان.
إنّ الزخم الاقتراعي غير المتوقّع للّوائح التغييرية يدفع إلى الاعتقاد أنّ الترجمة السياسيّة لانتفاضة 17 تشرين لم تبلغ أقصاها في الانتخابات الحالية
بين هذين المتغيّرين الرئيسين ثمّة العديد من المتغيّرات الجزئية والتفصيلية التي يجدر التوقّف عند دلالاتها السياسية – الاجتماعية. فإذا كان التصويت للقوى الـ17 تشرينيّة ينسجم تماماً مع طبيعة الانهيار الاقتصادي والنكبة الاجتماعية اللذين يعيشهما لبنان منذ خريف 2019، باعتبار أنّ هذا التصويت يعبّر بالدرجة الأولى عن رفضٍ للقوى التقليدية، سواء المشارِكة في السلطة أو لا، فإنّ نسب التصويت للأحزاب والقوى التقليدية تطرح أسئلة كبرى عن الدوافع السياسيّة والاجتماعية لهذا التصويت، خصوصاً عندما يحافظ “التيار الوطني الحر”، حزب رئيس الجمهورية، على كتلة نيابيّة تضمّ نحو 17 نائباً!
هذه المفارقة هي انعكاسٌ واضحٌ لطبيعة الخريطة السياسيّة – الاجتماعية التي أفرزتها الأزمة، والتي وإن خلقت انقساماً عمودياً بين مؤيّدي القوى التقليدية، وبالأخصّ قوى السلطة، وبين مؤيّدي انتفاضة 17 تشرين. فهي ورثت أو أعادت إنتاج الانقسامات السياسية والطائفية السابقة على هذه الانتفاضة، سواء داخل الطوائف أنفسها حيث تتنافس القوى التقليدية على حصّتها النيابية داخل كلّ طائفة، أو بين الطوائف المختلفة حيث يأخذ الانقسام السياسي بين الأحزاب الطائفية أبعاداً طائفية من ضمن الصراع التقليدي للقوى الطائفية داخل النظام السياسي. وهي أبعاد إن لم تعبّر عن نفسها بطريقة مباشرة، إلا أنّها تشكّل أداة أساسيّة بيد هذه القوى لشدّ العصب الطائفي لمناصريها. وهذا أمرٌ يمكن معاينته بشكل أساسي في خلفيّة الصراع السياسي – الانتخابي بين القوات اللبنانية وحزب الله. لكنّ التصويت للتيار الوطني الحر يتمّ أيضاً في جزء أساسي منه بدفع من الخطاب التحريضي والطائفي للتيار، والذي غُلّف تاريخياً بشعار “استعادة الحقوق المسيحية”.
وإلّا فكيف يمكن فهم تصويت هذه النسبة من اللبنانيين للقوى التقليدية، ولا سيّما قوى السلطة الحالية التي حصل الانهيار الكبير في ظلّها. فهل اللبنانيون الذين صوتّوا لهذه القوى غير متضرّرين من الأزمة؟ أم ما تزال أحزابهم قادرة على تقديم وعود بامتيازات اقتصادية وسياسيّة أو حتّى توفير مقتضيات معيشية؟
أسئلة من هذا النوع تصبح أكثر إلحاحاً عندما تصوّت هذه النسبة من اللبنانيين للوائح قوى 17 تشرين كشكل من أشكال الانتقام السياسي التاريخي من القوى التقليدية، وبالأخصّ قوى السلطة. مع استثناء حالة حزب الله بوصفه حزباً أيديولوجيّاً يمتلك أدوات خاصة في التعبئة والاستقطاب. وهو ما يجعل أيديولوجيته حائلاً دون تفاعل أنصاره الطبيعي مع الأزمة الاقتصادية. ناهيك بقدراته الماليّة واللوجستية الكبيرة التي تتيح له تشكيل شبكة مساعدات وتأمينات اجتماعية.
إنّ نجاحهم في تمثيل الحقل السياسي – الاجتماعي الجديد كفيل بتأصيل مسارات سياسية – شعبية جديدة في البلد
سلوك المُحْجِمين
هذا مع الأخذ في الاعتبار انخفاض نسبة الاقتراع الإجمالية التي بلغت 41.04 في المئة بعدما كانت 49.68 في المئة في 2018، أي أنّ حوالي 60 في المئة من اللبنانيين امتنعوا عن التصويت، وهو أمر يطرح أسئلة كثيرة عن أسباب هذا الامتناع وخريطته السياسية والاجتماعية. فإذا ما اعتبرنا التأثير ولو الضئيل لـ”خروج” تيار المستقبل من السباق الانتخابي بوصفه امتناعاً ذا دوافع سياسية تقليدية، فإنّ النسبة المتبقّية من الممتنعين تدفع إلى السؤال: هل تنطوي عدم حماستهم للمشاركة في العملية الانتخابية على أسباب سياسيّة متّصلة بعدم اقتناعهم بجدوى هذه المشاركة؟ أو على أسباب اقتصادية متعلّقة مثلاً بكلفة انتقالهم من أماكن سكنهم إلى أماكن قيدهم للاقتراع؟
غير أنّ الرجوع إلى مسلّمة الانطلاق من تبعات الانهيار لتحليل سلوك الناخبين أو المُحجمين عن الانتخاب يدفع إلى التساؤل: ألم يقترع هؤلاء المُحجمون لأنّهم متضرّرون من الأزمة، ولم يجدوا بين المرشّحين مَن يقنعهم بضرورة المشاركة. مع الأخذ في الاعتبار أنّ هؤلاء الممتنعين لا ينتمون إلى الأحزاب التقليدية التي تمتلك أدوات تعبئة إعلامية وسياسية تجعلها أقدر من القوى الجديدة على حثّ ناخبيها على الاقتراع، فضلاً عن توفير مستلزمات تنقّلاتهم واقتراعهم؟
من جهة ثانية، يُفترض بهذا الامتناع أن يدفع القوى التغييرية إلى السؤال عن أسباب عدم إقناعها شرائح معيّنة من المحجمين عن الاقتراع. وهذه نقطة ليست في مصلحة هذه القوى التي لم يُنتخَب مرشّحوها بالنظر إلى برنامجها بقدر ما انتُخبوا لأنّهم ضدّ الأحزاب التقليدية، أي أنّ التصويت العقابي هو ما منح الفوز لهؤلاء بالدرجة الأولى.
يرتّب هذا الأمر مسؤولية على القوى التغييرية التي دلّ الزخم الاقتراعي للوائحها على أنّها لو خاضت المعركة بتنسيق أكبر فيما بينها لكانت نالت عدداً أكبر من المقاعد، خصوصاً أنّ تحالفها على نطاق أوسع كان سيحفّز مزيداً من الناخبين الناقمين والمتردّدين على التصويت لها انتقاماً للأضرار التي لحقت بهم من جرّاء الانهيار. وهو أمر ينطبق في مستوى آخر على قوى المعارضة التقليدية التي تطلق على نفسها مسمّى القوى السيادية، والتي خاض بعضها معارك ضدّ البعض الآخر في العديد من الدوائر.
التصويت المتداخل
في هذا السياق يمكن التوقّف عند التصويت المتداخل والمعقّد لمصلحة اللوائح المعارِضة للسلطة، سواء من القوى التقليدية أو التغييرية، أي بين التصويت لأسباب سيادية متّصلة بالموقف من حزب الله وبين التصويت لأسباب اجتماعية بما هو ردّ فعل على الأزمة. وهو تداخل سينعكس في تموضعات هذه القوى جميعاً في البرلمان الجديد الذي لا تحظى فيه جبهة سياسيّة موحّدة بالغالبية، أي أنّنا سنكون أمام أكثريّة متحرّكة بحسب كلّ استحقاق دستوري وتشريعي، مع الأخذ في الاعتبار أنّ العديد من المرشّحين التغييريين فازوا على مرشّحين على لوائح حزب الله أو على مرشّحين حلفاء للحزب. ولا ننسى أنّ الأمين العامّ لحزب الله كان قد تهكّم سابقاً على قوى 17 تشرين من خلال وصف أحد تجمّعاتهم بأنّه عبارة عن “16 شخصاً وكلبهم”، فإذا بها تحصد 16 نائباً. وهذا دليل على الدينامية الرئيسية للعلاقة بين الحزب وهذه المجموعات، لكنّها دينامية غير نهائية ما دام من غير الممكن استبعاد تقاطع بعض النوّاب التغييريين مع الحزب حول قضايا وملفّات محدّدة.
إقرأ أيضاً: انتخابات رئاسة مجلس النوّاب: برّي مقابل إقالة سلامة..
في المحصّلة فإنّ الزخم الاقتراعي غير المتوقّع للّوائح التغييرية يدفع إلى الاعتقاد أنّ الترجمة السياسيّة لانتفاضة 17 تشرين لم تبلغ أقصاها في الانتخابات الحالية، باعتبار أنّ الانهيار قد أنتج حقلاً سياسياً – اجتماعياً معارضاً للقوى التقليدية، لكنّه حقلٌ يحتاج إلى تأطير لدفعه إلى الانخراط أكثر في العملية السياسيّة. وهو ما يرتّب مسؤولية مضاعفة على النواب التغييريّين ومجموعاتهم. فمن جهة هم يخضعون لامتحان ثقة من قبل ناخبيهم الذين صوّتوا لهم بوصفهم بديلاً للقوى التقليدية، بل نقيضاً لها، وبالتالي عليهم إثبات ذلك، ومن جهة ثانية فإنّ نجاحهم في تمثيل الحقل السياسي – الاجتماعي الجديد كفيل بتأصيل مسارات سياسية – شعبية جديدة في البلد.