في تغطيتها التراجيدية الأخيرة أدارت الشهيدة “شيرين” المعركة مع القاتل في هيئتها الجديدة من القدس، حيث تمترست في نعشها لتقاتل الاحتلال الإسرائيلي وتكشف الوجه الحقيقي لدولة إسرائيل، التي تطارد نعشاً وتحاول إسقاطه.
على طريقتها الخاصة، أعادت شيرين أبو عاقلة انبعاث السّرديّة الفلسطينية بكلّ حروفها، في الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة، وأعادت بجنازتها الفريدة والمهيبة تظهير المتاهة الفلسطينية، قصة الشعب الفلسطيني الذي نصفه تحت الاحتلال، ونصفه الثاني مهجَّر في أصقاع الأرض، وأضاءت من نعشها على القدس، روحها وهويّتها وتفاصيلها، فكان القتال على العلَم والكوفيّة والدمعة وعلى كميّة الحزن المتاح.
كانت الشاشات العالمية قد تناقلت صور اعتداء الشرطة الإسرائيلية بالهراوات والقنابل المسيّلة للدموع والمياه العادمة على مشيّعي جنازة أبو عاقلة، لمنعهم من حمل العلم الفلسطيني، ونقل نعشها على الأكتاف والمرور به في أحياء القدس القديمة في الطريق إلى مقبرة الروم الكاثوليك، حيث ووريت في الثرى.
أعادت شيرين أبو عاقلة انبعاث السّرديّة الفلسطينية بكلّ حروفها، في الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة
تزامن اغتيال أبو عاقلة مع الذكرى الـ74 للنكبة الفلسطينية. ففي تاريخ 15 أيار من عام 1948، سطت العصابات الصهيونية، بقوة السلاح، على فلسطين التاريخية، في ظلّ صمت دوليّ رهيب. على إثر ذلك تشرّد الفلسطينيون من بيوتهم هائمين على وجوههم في مخيمات المعاناة واللجوء، وأعلن الكيان الصهيوني إقامة دولته.
انتقادات إسرائيلية
وجّه الصحافي الإسرائيلي شلومي إلدار انتقادات لاذعة لتل أبيب، بسبب ما حدث في جنازة أبو عاقلة، مؤكّداً أنّ ما يصدر منها ينمّ عن ضعف وليس قوّة، فالضعفاء هم الذين يعتبرون الصحافيين ونعش صحافية عدوّاً خطيراً يهدّدهم. وتابع قائلاً: “ما هي كميّة الكراهية التي يجب أن تكون بداخلك حتى تقوم بمثل هذا الفِعل؟ مَن هو ذلك العديم الإحساس الأحمق الذي أعطى هذه الأوامر؟”.
في الحقيقة، ليس الضابط الذي أعطى أوامر الاغتيال بدم بارد في وحدة “دافان” التي اقتحمت مخيّم جنين هو المسؤول، بل هي مسؤوليّة دولة ونظام سياسي لا يرى قيمة للدم الفلسطيني ولا لحقوق الشعب الفلسطيني، وهي ترتبط بأعلى مستوى في الهرم السياسي والعسكري الإسرائيلي الذي يعطي الأوامر للجنود والعساكر بفتح النار بشكل مباشر على أيّ هدف متحرّك، بمن فيهم الطواقم الصحافية والطبيّة. ليست شيرين أبو عاقلة ضحيّة جندي أطلق النار من سلاحه مباشرة نحوها وحسب، إنّما هي ضحيّة الماكينة الرسمية الإسرائيلية المحرِّضة على قتل الفلسطينيين وسلخهم من جلودهم وعن أرضهم.
كذلك أعرب مسؤولون دوليون وأوروبيون عن صدمتهم من مشاهد الاعتداء الوحشي لقوات الاحتلال الإسرائيلي على موكب تشييع جثمان الصحافية شيرين أبو عاقلة في مدينة القدس المحتلّة. وقال الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إنّ “الاتحاد الأوروبي يشعر بالذهول من مشاهد الصدامات التي اندلعت يوم الجمعة خلال تشييع الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة”، ودعا إلى تحقيق فوري ومستقلّ.
واعتبر المعلّق السياسي في موقع “واللاه” الإسرائيلي، براك رفيد، أنّ مسؤولين كباراً في الإدارة الأميركية احتجّوا لدى “إسرائيل” على سلوك شرطة الاحتلال خلال تشييع جثمان شيرين أبو عاقلة. ونُقل عن مصدر أميركي قوله إنّ إدارة الرئيس جو بايدن “غاضبة جدّاً بشأن الحادث”. وأكّدت هيئة البثّ العبرية أنّ مسؤولين من الاتحاد الأوروبي وغيرهم من المسؤولين حول العالم قد أدانوا هذا العنف الإسرائيلي، وهو ما يثير القلق داخل أروقة الحكم في تل أبيب، بدعوى أنّه سيكون هناك تداعيات لهذا السلوك الإسرائيلي.
قوّة الإعلام.. وأصل الرصاصة
تدرك إسرائيل مدى تأثير قوّة الإعلام. فخلال السنوات التي تلت حملة السور الواقي في الضفة قبل عشرين عاماً، كتب غال هيرش الذي كان قائد لواء: “الجيش الإسرائيلي عمل على تقليص الاحتكاك مع الفلسطينيين، ليس لاعتبارات عملياتية، بل بهدف التحكّم بالوعي وتنفيذ الأعمال من تحت مستوى الكاميرا وتعطيل قوّة الضعيف، فقد كان واضحاً لنا مدى قوّة الإعلام وتأثيره”.
في الإطار ذاته، أكّد الرئيس محمود عباس إصرار دولة فلسطين على ملاحقة الجناة من قوات الاحتلال الإسرائيلي، مشدّداً على أنّ إسرائيل لن تكون شريكة في أيّ تحقيق يتعلّق باستشهاد شيرين أبو عاقلة لأنّها مسؤولة عن قتلها. وأعلن وزير العدل الفلسطيني محمد الشلالدة أنّ ملفّ اغتيال الزميلة شيرين أبو عاقلة برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي سيُحال إلى المحكمة الجنائية الدولية عند استكماله في أقرب فرصة ممكنة.
وخلصت التحقيقات الأوّلية للنيابة العامّة الفلسطينية إلى أنّ مصدر إطلاق النار الوحيد في مكان الجريمة كان من قوات الاحتلال لحظة إصابة شيرين أبو عاقلة، وأشارت التحقيقات إلى تعمُّد قوات الاحتلال ارتكاب جريمتها، وقد تبيّن ذلك من خلال إجراءات الكشف والمعاينة لمسرح الجريمة.
كانت السلطات الإسرائيلية قد زعمت في البداية أنّ مقتل الصحافية شيرين في جنين كان نتيجة رصاص مسلّح فلسطيني، خلال محاولة جيش الاحتلال إلقاء القبض عليه. وتأتي هذه المزاعم للأجهزة الأمنية الإسرائيلية في سياق التنصّل من المسؤولية، وطمس الحقائق في ملفّ اغتيال الصحافية أبو عاقلة، والتحريض على المقاومة الفلسطينية المسلّحة باتّهامها بضلوعها في إطلاق النار في المنطقة التي شهدت اغتيال أبو عاقلة.
لكنّ تل أبيب تراجعت جزئيّاً عن هذه المزاعم. فبعد فتح تحقيق إسرائيلي داخلي في الحادث، قال وزير الدفاع بيني غانتس إنّ “الرصاصة التي قتلت أبو عاقلة ربّما كانت من الجانب الفلسطيني، أو من جانبنا للأسف”.
من جانبها، أزاحت صحيفة “هآرتس” العبرية الستار عن تفاصيل شهادة الجندي المتّهم باغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة في جنين. ونقلت الصحيفة عن مسؤول إسرائيلي قوله إنّ جنديّاً إسرائيلياً أطلق النار من على بعد 190 متراً تقريباً من شيرين أبو عاقلة، مرجّحاً أن قد يكون أصابها. وأوضح المسؤول أنّ الجندي كان جالساً في سيارة جيب مسلّحاً ببندقية ذات عدسة تلسكوبية، وادّعى أنّ الجندي كان يحاول استهداف مسلّح فلسطيني ظهر 3 مرّات من وراء جدار، وفتح النار على الجيب، وكان الصحافيون على مسافة قصيرة خلفه، وأنّ إطلاق النار من الجيب يعطي زاوية رؤية محدودة.
إقرأ أيضاً: ما الذي دُفن مع شيرين.. وما الذي ينبغي أن يدفن؟
وعرضت تل أبيب إجراء تحقيق مشترك مع الفلسطينيين للحصول على الرصاصة التي قتلت شيرين وتقرير الطبّ الشرعي. غير أنّ السلطة الفلسطينية رفضت ذلك. وأعلن الجيش الإسرائيلي إجراء تحقيق خاص قال إنّه سيستغرق وقتاً قبل صدور النتائج. وبالنسبة إلى هاجيا إلعاد الذي يعمل في منظمة “بيتسلم” العبرية لحقوق الإنسان، والذي قضى أعواماً وهو يحقّق في انتهاكات الجيش الإسرائيلي، فقد رأى أنّ مطالب التحقيق المشترك خطيرة، وقال إنّ “سلطات الاحتلال تفتح تحقيقاً لسنوات، ثمّ تغلقه بدون إدانات. وحتى لو حصلت الإدانات، فستكون لجنود من الرتب الدنيا يُحكَم عليهم أحكاماً مخفّفة. فقناص إسرائيلي قتل طفلة فلسطينية عام 2014 في غزّة، حُكِم عليه بالقيام بخدمة اجتماعية لمدّة 30 يوماً”.
* كاتبة فلسطينية مقيمة في غزّة