“خليفة المكارم” هو اللقب الذي أطلقه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم دبي، على المغفور له، عند وفاة الشيخ زايد طيّب الله ثراه، وهو الأبلغ عند وصف الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، الذي فارق الدنيا الفانية إلى رحمة ربّه وجنانه الخالدة.
كان الشيخ خليفة اليد اليمنى لوالده الشيخ زايد منذ صباه. فقد ترعرع في كنفه، ودرس في مدرسة زايد الكبرى، وكان من الأصفياء الذين منّ عليهم الله بفضله أن تربّى على يد القائد الهمام ومؤسّس الدولة ورجل الدولة الفذّ الذي قلَّما جاد التاريخ بأمثاله.
وقد صبّ الراحل الكبير الشيخ خليفة جلّ اهتمامه على بناء الدولة الفتيّة منذ إنشائها. وقد انبرى لمهمّة إنشاء الجيش الوطني الذي حمى الاتحاد ومنجزاته منذ البداية. وكان الجيش الإماراتي، الذي وضع الشيخ خليفة لبناته الأولى بما هو قائد لقوّات دفاع أبوظبي، الحصن المنيع لكلّ مَن هو طامع أو متربّص بالدولة الفتيّة. وقد شغل منذ بداية الاتحاد المنصب المهمّ لنائب القائد الأعلى للقوّات المسلّحة.
لم يكتفِ الشيخ خليفة بقضيّة التمكين السياسي وحسب، بل أخذ على عاتقه تمكين المرأة التي أصبحت تتساوى مع الرجل في الحقوق والواجبات. وأصدر المرحوم تشريعاتٍ بهذا الغرض في شأن المساواة بين الجنسين
وكان رحمه الله يردّد دائماً أنّ علينا أن نبني جيشاً قويّاً يذود عن حياض الوطن، ويدافع عن كرامة الإمارات والأمّة العربية. وقد عمد منذ تأسيس الجيش إلى تسليح هذا الصرح العسكري، الذي أثبتت الأيام فاعليّته وجهوزيّته، بالعُدّة والعتاد. وكان دائم الإصرار على تنويع مصادر التسليح حتى لا تقع الدولة ومؤسّستها العسكرية تحت أيّة ضغوط من الدول المصدِّرة للسلاح، وقد أثبتت الأيام حكمته في ذلك.
ظلّ الشيخ خليفة يبني الجيش ويضع قواعده ويختار الأنسب ويستقطب الأفضل ليقودوا هذه المؤسّسة عبر أجيال وأجيال حتى غدا من أقوى جيوش المنطقة تسليحاً وخبرةً واستعداداً. وإنّنا اليوم إذ نفتخر بهذا الإنجاز الكبير إنّما نفتخر بما حقّقه الشيخ خليفة من منجزات في هذا المجال.
تحمّل الشيخ خليفة أعباء القيادة منذ نعومة أظافره. وكان مع والده يرسمان الخطط الاستراتيجية للنهوض بالبلاد وإعمار هذه الأرض، وتوحيد أبناء الشعب الواحد في دولةٍ فتيّة أضحت محطّ أنظار العالم. وقد راهن خليفة مع جيل المؤسّسين على دولة الاتّحاد على الرغم من المتشكّكين، وعلى الرغم ممَّن أراد بالدولة الفتيّة السوء. وأثبتت الأيام أنّ رهانات المرحوم الشيخ خليفة كانت صائبة، وأنّ المتشكّكين في قدرات الأمّة خابوا وخابت أمنياتهم.
بناء الاقتصاد بعد الجيش
يُعتبر الاقتصاد عماد أيّة دولة. وقد أدرك الشيخ خليفة أهميّة هذا العامل في بناء الدولة. وتكفّل بتطوير صناعة البترول، ودخل في مفاوضاتٍ مع الشركات النفطية لتوزيع الحصص العادلة لكلّ الأطراف بما يضمن حقوقهم وامتيازاتهم. وقد رَأَس الشيخ خليفة “المجلس الأعلى للبترول”، وأشرف على تأسيس “شركة أبوظبي للبترول” التي كانت لها، ولا تزال، اليد الطولى في تطوير صناعة النفط والقفز بها إلى مستوياتٍ عاليةٍ سبقت كثيراً من الدول النفطية في المنطقة.
على الرغم من أهمّيّة النفط في الدولة لأنّه أهمّ مصدر للدخل، فإنّ الشيخ خليفة كان حريصاً على تنويع مصادر الدخل لأنّ النفط من الموارد الناضبة. ولا يمكن الاعتماد على سلعة وحيدة تتذبذب أسعارها وتؤثّر أيّما تأثير على العمليّة التنموية في البلاد. لذا أسّس الشيخ خليفة جهاز الاستثمار، وهو ذراع استثمارية توازن بين دخل النفط واستثمارات الجهاز. وبذلك يكون الوضع الماليّ للدولة مستقرّاً حتى مع تراجع أسعار النفط.
كذلك كانت للشيخ خليفة أيادٍ بيضاء في كلّ المجالات، وخاصة في مجال العمل الخيريّ الذي أنفق الراحل في سبيله الكثير وأنشأ المشاريع والصناديق لهذا المجال. إذ أنشأ الشيخ خليفة “دائرة الخدمات الاجتماعية” والمباني التجارية، أو ما عُرِف بـ”لجنة الشيخ خليفة”، لبناء المباني الشاهقة للمواطنين من دون فوائد، على أن يسدّدوا القروض على آجال بعيدة، ويتمتّعوا بمردودٍ ماديّ يكفل لهم سبل العيش الكريم. وقامت هذه اللجنة أيضاً ببناء البيوت الشعبية، التي وُزِّعت على المواطنين مجّاناً لتوفير العيش المستقرّ لهم ولعوائلهم.
لتشجيع مزيدٍ من التنويع في الاقتصاد، أسّس “صندوق خليفة لتطوير المشاريع لفئة الشباب”، بهدف إنشاء مشاريع صغيرة ومتوسّطة لتحريك الاقتصاد، وجعل هذه المشاريع محرّك التنمية الاقتصادية، وتوفير حياة رغدة للشباب بدلاً من الاعتماد على الوظيفة. ويشجّع الصندوق روح المبادرة وريادة الأعمال والمثابرة والابتكار.
حماية البيئة أيضاً
كان من اهتمامات الشيخ خليفة، وقد سبق زمانه في ذلك، حماية البيئة التي أعطاها اهتماماً بالغاً، وخاصة في ما يتعلّق بالطيور البرّيّة، كإعادة الصقور إلى بيئتها المحلّية، والإكثار من طيور الحباري.
عندما ترجّل الشيخ زايد، طيّب الله ثراه، في 2004، انبرى الشيخ خليفة للمهامّ الكبيرة مقتدياً بخطى الراحل الكبير لإكمال المشوار وتطوير الدولة وإمكانيّاتها. وقد كان عضده في هذه المسيرة صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد وليّ العهد، ونائب القائد الأعلى للقوّات المسلّحة حينها.
قام الشيخ خليفة بتطوير مؤسّسات الاتحاد، وأعلن عن “حقبة التمكين” بعد “حقبة التأسيس”. وصرّح خليفة حينها بأنّ “المرحلة المقبلة من مسيرتنا وما تشهده المنطقة من تحوّلات وإصلاحات تتطلّب تفعيلاً أكبر لدور المجلس الوطني الاتحادي وتمكينه ليكون سلطة مساندة ومرشدة وداعمة للمؤسسة التنفيذية”. وأضاف سموّه: “سنعمل على أن يكون مجلساً أكثر قدرة وفاعليّة والتصاقاً بقضايا الوطن وهموم المواطنين، تترسّخ من خلاله قيم المشاركة الحقّة ونهج الشورى”.
بذلك الإعلان أصبح نصف أعضاء المجلس الوطني منتخباً ابتداء من 2006 إلى وقتنا هذا. وقد أعلن الشيخ خليفة حينها أنّ “العام المنصرم شهد منعطفاً مهمّاً في طريق التمكين السياسي، وتعميق الممارسة الديمقراطية، بانعقاد المجلس الوطني الاتحادي في فصله التشريعي الرابع عشر، فكان نصف أعضائه من العناصر المنتخبة، فيما تبوّأت المرأة أكثر من 22 في المئة من مقاعده بما أضفى على التجربة ثراء وحيويّة، وما زلنا على عهدنا قبل عامين أن نصل بالتجربة الديمقراطية إلى مقاصدها، بتوسيع نطاق المشاركة وتعزيز دور المجلس الوطني كسلطة تشريعية ورقابية”.
إقرأ أيضاً: زمن محمّد بن زايد
لم يكتفِ الشيخ خليفة بقضيّة التمكين السياسي وحسب، بل أخذ على عاتقه تمكين المرأة التي أصبحت تتساوى مع الرجل في الحقوق والواجبات. وأصدر المرحوم تشريعاتٍ بهذا الغرض في شأن المساواة بين الجنسين. ولم يكن تمكين المرأة شعاراً وحسب. بل شهدت الساحة تغيّرات جذرية في ممارسة المرأة والمشاركة السياسية، عبر مجلس الوزراء وعبر المجلس الوطني الاتحادي. ويضمّ مجلس الوزراء 9 وزيرات، بينما ارتفع عدد النساء في المجلس الوطني منذ 2019 إلى 50%. هذا عدا عن المناصب العليا في الدولة، “فبالنسبة إلى توزيع المناصب في المؤسسات الحكومية بحسب الجنس، تمثّل المرأة 46.6% من إجمالي القوى العاملة، وتشغل 66% من وظائف القطاع العامّ، منها 30% في مراكز صنع القرار، و15% في الأدوار التقنية والأكاديمية”.
رحم الله خليفة المكارم وأسكنه فسيح جنانه. فقد كان فعلاً خير خلف لخير سلف. ووفّق الله خليفته وحفظ الله الإمارات وشعبها والشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم.
* كاتب إماراتيّ