زمن محمّد بن زايد

مدة القراءة 6 د

رحل الكبير الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وتستمرّ مسيرة الإمارات وأهلها بقيادة الشيخ محمد بن زايد وعضده الشيخ محمد بن راشد وحكّام باقي الإمارات وشيوخها الكبار.

جبلٌ يسلّم جبلاً.. وسماوات إنجاز ترتفع فوق سماوات.. هذه هي إمارات زايد المؤسّس، الذي أرسى دولة مؤسّسات علامتها الإنجاز ونظام حكم صنوه الاستقرار .

لم ينتظر حاكم دبي، ورئيس مجلس الوزراء، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، اجتماع المجلس الأعلى للاتحاد لانتخاب “أبي خالد” خلفاً للراحل الكبير، بل بايعه رئيساً وقائداً ووليّ أمر بقصيدة، جاءت أبياتها كأنّها وصفٌ أمينٌ لطبيعة الأشياء لا أكثر ولا أقلّ.

رحل الكبير الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وتستمرّ مسيرة الإمارات وأهلها بقيادة الشيخ محمد بن زايد وعضده الشيخ محمد بن راشد وحكّام باقي الإمارات وشيوخها الكبار

وبعد انتخاب الشيخ محمد، بإجماع حكّام الإمارات السبع، رمى محمد بن راشد الكلمة المفتاح الثانية، حين وصف الرئيس الجديد في بيان البيعة بأنّه “ظلّ زايد وامتداده فينا”.. لا ينتقص هذا الوصف من السيرة العظيمة للشيخ خليفة رحمه الله، بأفعاله وإنجازاته التي أفردت لها المحطّات العربية والدولية وبرقيّات النعي جميعها ما يليق بها من اعتراف وتوثيق وشهادات للتاريخ..

حاكم دبي أكثر مَن يعرف أنّ رصيد الشيخ خليفة ليس موضع تنازع أو مفاضلة مع أحد، هو الذي كان السند لإخوانه في “الإمارة المعجزة” أو “كوكب دبي” كما يحلو لي أن أسمّيها، حين كشّرت عن أنيابها الأزمة الماليّة الدولية عام 2008، ففتح خزائن الدولة لصون جوهرة الاتحاد، وبادله بن راشد عام 2010 بأن حوّل اسم برج دبي يوم افتتاحه إلى برج خليفة..

مجد الشيخ خليفة، أنّ البناء الأعلى في العالم، بكلّ بهائه المعماريّ، يحمل اسمه وطيب ذكراه إلى الكون، بعدما وُوري في ثرى بلاده في قبر متواضع متخفّف من كلّ ملامح البهرجة.. لا في ضريح أسطوريّ يحتضن رفاة مَن ترك خلفه أبراجاً من ركام وجماجم وجراح وما أكثرهم في عالمنا!!

لا ينازَع على المجد مَن هذا مجده..

تشاء أقدار دولة الإمارات أن تؤول إلى الشيخ محمد بن زايد، وهو وليّ للعهد، المسؤوليّات الرئيسية للحكم، بعد اضطراب صحّة المغفور له الشيخ خليفة، جرّاء سرطانين وجلطتين دماغيّتين كبيرتين خلال نحو عقدين من الزمن، بعدما كان أبو خالد شريكاً ناصحاً ومنفّذاً أميناً لرؤية أخيه الراحل الذي ما خاطبه يوماً إلّا بلقب “سيّدي” وما أشار إليه يوماً في غيابه إلا بعبارته الإنكليزية المحبّبة “My Boss”.

“الحاكم” في بحر الأزمات

تشاء الأقدار، أكثر، أن يحصل هذا في ظلّ زلازل متعاقبة تضرب المنطقة واستقرارها ومداميك توازنها، من تداعيات 11 أيلول 2001 والحرب على الإرهاب، إلى ثورات الربيع العربي الذي صار ربيع الإخوان المسلمين، إلى التغوّل الإيراني بعد العام 2005، إلى التعامل الطارئ مع التغييرات العميقة التي أصابت الدور الأميركي في المنطقة في إثر صعود الرئيس باراك أوباما عام 2008!

كانت كلّ محطة من هذه المحطّات تستوجب أعلى درجات اليقظة والحكمة وحسن التدبّر وسرعة القرار ودقّة التنفيذ.. وقع كلّ ذلك على كتفَيْ الشيخ محمد.. بهذا المعنى، وبأرفع درجات اللياقة الشخصية والسياسية، يمكن القول إنّ الإمارات عاشت مع محمد بن زايد “حاكماً” أطول ممّا عاشت معه وليّاً للعهد منذ تسلّم هذا المنصب نهاية العام 2004، قبل أن يصير رئيساً “دستوريّاً” لدولة الاتحاد. من هنا يُفهم التعبير الدقيق الذي صاغه الشيخ محمد بن راشد، وهو المقلّ في الكلام، والمترفّع عن المديح، حين وصف أخاه الشيخ محمّد بـ”ظلّ زايد وامتداده فينا..”.

إنّه الظلّ الذي قاد ثورة بكلّ مقاييس الثورات في تنقية نظام التعليم في دولة الإمارات من اختراقات الإخوان المسلمين، على مستويَيْ المناهج الدراسية والكادر التعليمي بعد 11 أيلول 2001.

وهو الظلّ الذي يعرف مكانة مصر في عقل ووجدان الراحل المؤسّس زايد بن سلطان، فكان إلى جانبها في معركة تحريرها من براثن الإسلام السياسي، بمعيّة الكبير بندر بن سلطان، و”الملك الملك” الراحل عبد الله بن عبد العزيز عام 2013. هذه حقبة كانت موضع إشادة علنيّة نادرة خرجت من مصر على لسان رئيسها عبد الفتّاح السيسي، في “إفطار الأسرة المصرية” قبل أسابيع حين قال: “لولا تدخّل الأخوة العرب بعشرات المليارات من الدولارات عامَيْ 2013 و2014 لَما كانت ستقوم لمصر قائمة”. لقد تعمّد الرئيس السيسي أن يصوغ عبارته بمعانٍ ذات طابع وجودي للدولة المصرية، لا بمعاني التكافل والتضامن وحسب.

 

وقف الأمور لما توصل بيت الشعر

كُتب الكثير الكثير عن التحوّلات التي طرأت على طبيعة دولة الإمارات، ونسبت إلى الشيخ محمد بن زايد، من دون دقّة أو وجه حقّ، حتى لو قيل ذلك عنها بدافع الودّ والإعجاب. مثلاً لقد صكّ جايمس ماتيس وزير الدفاع الأميركي الأول في عهد دونالد ترامب عبارة “إسبارطة الصغيرة” في وصفه الإمارات المتحفّزة والداخلة في معظم اشتباكات الإقليم في مواجهة مشروع الإسلام السياسي.

بيد أنّ العارفين يعرفون أنّه مجدّداً “ظلّ زايد” الذي منه تعلّم الشيخ محمد قاعدة بسيطة في علم المواجهة وفقه الكرامة الوطنية تقول: “وقف الأمور لما توصل بيت الشعر”، أي حين يقترب الخطر من الوطن واستقراره وسلامته.

ما تجدر إضافته هنا، أنّ عقل الشيخ محمد بن زايد لا يعمل ضمن منطق الثنائيّات المتناقضة، فإمّا إمارات ساكنة وإمّا إسبارطة، بل يشتغل ضمن صيرورة متكاملة العناصر والمقوّمات، مشدودة نحو المستقبل، وهو العارف بقول المتنبّي:

“ووضع الندى في موضع السيف بالعلا … مضرّ كوضع السيف في موضع الندى”.

ففي زمن محمد بن زايد يُراد للإمارات أن تكون إسبارطة وأن تكون أثينا في الوقت نفسه. هو قائد البلاد التي تقاتل، وخيرة أبناء شيوخها على الجبهات الأماميّة، وهو قائد السلام الإبراهيمي مع إسرائيل، وعرّاب فلسفة مصالحة الأديان التي عبّرت عنها وثيقة الأخوّة الإنسانية في أبوظبي بين بابا الكنيسة الكاثوليكية وشيخ الأزهر الشريف.

إقرأ أيضاً: من عهد إلى وليه

هو قائد إسبارطة بسلاح جوّها وجيشها وقوّاتها الخاصة عند اللزوم، والرؤيويّ الذي يتتبّع مقتنيات “متحف اللوفر” في العاصمة كأنّ حياة بلاده تتوقّف عليها.. صاروخ للمعتدين وآخر للمرّيخ. قَطْعٌ مع المتآمرين أيّاً كان القرب الجغرافي معهم ووَصْلٌ مع الكون في “إكسبو دبي” مهما تباعدت مسافات الثقافة والجغرافيا..

بعدما أصبح رئيساً دستوريّاً للبلاد، يستكمل محمد بن زايد زمنه.. زمن بدأ في فيء قامة زايد العملاقة وأكمل إلى جوار الراحل الشيخ خليفة، ويستمرّ بحنوّ كأنّه البلاد كلّها في رجل..

مواضيع ذات صلة

إلى الدّكتور طارق متري: حول الحرب والمصالحة والمستقبل

معالي الدكتور طارق متري المحترم، قرأت مقالك الأخير، بعنوان: “ليست الحرب على لبنان خسارة لفريق وربحاً لآخر”، في موقع “المدن”، بإعجاب تجاه دعوتك للوحدة والمصالحة…

“حزب الله الجديد” بلا عسكر. بلا مقاومة!

أكّد لي مصدر رفيع ينقل مباشرة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي قوله: “أنا لا أثق بأيّ اتّفاق مكتوب مهما كانت لديه ضمانات دولية من أيّ قوى…

هل تنأى أوروبا بنفسها عن عقدة محرقة غزّة؟

بعد 412 يوماً من الإمعان في إشعال المحرقة في فلسطين ولبنان، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً باعتقال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير جيشه المخلوع…

لبنان “صندوق بريد” بين إسرائيل وإيران

ما تسرّب من “المبادرة الأميركية” التي يحملها آموس هوكستين مفاده أنّه لا توجد ثقة بالسلطات السياسية اللبنانية المتعاقبة لتنفيذ القرار 1701. تقول الورقة بإنشاء هيئة…