في عام 1989 عُقدت في مالطة قمّة أميركية – سوفياتية بين الرئيسين جورج بوش (الأب) وميخائيل غورباتشوف. بعد مرور عدّة أشهر على هذه القمّة قام وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت جيمس بيكر بزيارة رسمية لموسكو أبلغ أثناءها الرئيس غورباتشوف ما يلي: “نريد أن نؤكّد لكم أنّه إذا كان لنا وجود عسكري في ألمانيا، وإذا أصبحت ألمانيا عضواً في حلف شمال الأطلسي، فلن يكون هناك تمدّد للحلف ولو بقدر إنش واحد نحو الشرق”.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وتفتّته، جدّد رئيس الحكومة البريطانية في ذلك الوقت جورج ميجر الالتزام بهذا التعهّد، فأعلن رسمياً: “إنّنا لا نتحدّث عن تعزيز الحلف الأطلسي أو تقويته”.
ولكن خلافاً للتعهّد الأميركي وللتأكيد البريطاني، فإنّ سبع دول من الدول الأعضاء الثماني في حلف وارسو (الذي كانت تتزعّمه موسكو ليكون جبهة في وجه الحلف الأطلسي)، انسحبت من حلف وارسو وانضمّت إلى الحلف الأطلسي. ثمّ تمدّدت كتلة الدول الشمالية الأوروبية الإسكندينافية، التي كانت بعيدة عن روسيا، لتشمل دول البلطيق التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وبذلك تمدّد الحلف مسافة ألف كيلومتر باتّجاه روسيا، وأصبح على بعد 200 كيلومتر فقط من العاصمة التاريخية الأولى سان بطرسبرغ، وعلى بعد 600 كيلومتر من العاصمة الحالية موسكو.
تراقب الصين، التي تتطلّع إلى استرجاع تايوان، المشهد في أوروبا باهتمام شديد، ذلك أنّها تحوّلت إلى قوة مرجّحة للجهة التي تتحالف معها
وفي عام 2008، وأثناء انعقاد قمّة لدول حلف الأطلسي في بوخارست (رومانيا)، دعت الولايات المتحدة الأميركية كلّاً من جورجيا وأوكرانيا للانضمام إلى الحلف. وإذا تمّ ذلك الآن فإنّ روسيا ستشعر بأنّ الحلف أصبح يحاصرها من الشمال عبر إسكندينافيا، ومن الغرب من خلال بولندة. وقد أدّت هذه التطوّرات إلى قرع ناقوس الخطر في الكرملين.
في شهر كانون الأول الماضي جمع الرئيس فلاديمير بوتين القيادات العسكرية الروسية في الكرملين وخاطبهم قائلاً: “على الأميركيين أن يدركوا أنّنا لا نستطيع أن نتراجع أكثر. لا يوجد عندنا مجال للتراجع، فهل يعتقدون أنّنا سوف نكتفي بالتفرّج؟”. وتساءل بانفعال شديد: “ماذا تفعل الولايات المتحدة في أوكرانيا التي تقع على عتبة بيتنا؟”.
وفي السابع عشر من الشهر ذاته قام عشرة آلاف جندي روسي بمناورات عسكرية شرق أوكرانيا. اعتبر حلف الأطلسي أنّ العمليّة تمهّد لاجتياح الدولة التي كانت جزءاً من روسيا ثمّ انفصلت عنها سياسياً وكنسياً (الأرثوذكسية هي دين الدولة في روسيا وأوكرانيا، وانفصال أوكرانيا عن روسيا أدّى إلى انفصال كنيستها أيضاً عن كنيسة موسكو بمباركة البطريرك بارثالوميوس بصفته الأوّل بين البطاركة المتساوين).
وعلى الرغم من أنّ روسيا نفت مراراً نيّتها اجتياح أوكرانيا إلا أنّ حلف الأطلسي (وعلى رأسه الولايات المتحدة) لم يصدّق، ذلك أنّ الحشد العسكري الروسي كان الأكبر منذ انتهاء الحرب الباردة.
لم يترك الرئيس بوتين الهدف السياسي من وراء المناورات العسكرية مجهولاً أو غامضاً، إذ إنّ الهدف هو الحصول على ضمانات تتعلّق بسلامة روسيا من خلال معاهدة جديدة بين موسكو من جهة، وواشنطن والحلف الأطلسي من جهة ثانية.
فهمت الولايات المتحدة (ودول الحلف الأطلسي) طلب بوتين بأنّه محاولة لإقامة منطقة نفوذ روسيّة في شرق أوروبا والقوقاز وآسيا الوسطى. والترجمة العمليّة لذلك هي عدم وجود قوات أو أسلحة استراتيجية لحلف الأطلسي في الدول المتاخمة مباشرة للاتّحاد الروسي. ومن المعروف أنّ لحلف شمال الأطلسي وجوداً عسكرياً في كلّ من بولندة ودول البلطيق. وكان الحلف قد بدأ ذلك في عام 2012 بعد استرجاع (احتلال؟) روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا التي انفصلت عنها.
إنّ رفض الحلف للطلب الروسي يفتح الباب أمام المواجهة. واستجابة الحلف للطلب الروسي يمنح الكرملين انتصاراً سياسياً وعسكرياً. ومن شأن الأمرين جرّ المنطقة، والعالم كلّه، إلى خطر المجابهة العسكرية – السياسية بين روسيا ودول الحلف. من هنا المأزق التي تبحث واشنطن وموسكو عن آليّة للخروج منه، عبر لقاءات القمّة عن بعد، لكن من دون جدوى حتى الآن.
إقرأ أيضاً: أوكرانيا: روسيا ثابتة.. أوروبا مرتبكة.. وأميركا ضعيفة
تراقب الصين، التي تتطلّع إلى استرجاع تايوان، المشهد في أوروبا باهتمام شديد، ذلك أنّها تحوّلت إلى قوة مرجّحة للجهة التي تتحالف معها.
أمّا الخطر الأكبر فيتمثّل في أنّ روسيا والصين والولايات المتحدة يملك كلٌّ منها ترسانات نووية ذات قدرات تدميرية هائلة، وأيّ خطأ في الحسابات السياسية يمكن أن يُشعل بينها حرباً قد تكون حرب إبادة جماعية، لا حرب بعدها ولا سلام.