روسيا.. كم عُمر الغضب؟

مدة القراءة 6 د

في أعقاب اغتيال الرئيس السادات نشر الأستاذ محمد حسنين هيكل كتاباً بعنوان “خريف الغضب”. لم يتضمّن الكتاب تحليلاً جادّاً عن عصر أنور السادات، بل كانت معظم فصوله مجرّد جولات متعدّدة من الانتقام.. من الزعيم الذي انتصر.

وبينما فشل أصدقاء الأستاذ هيكل في الدفاع عن هذا الكتاب، الذي يرونه أسوأ مؤلّفاته، نشر الفيلسوف المصري الدكتور فؤاد زكريا ردّاً مؤلماً على الأستاذ هيكل بعنوان “كم عُمر الغضب”. وهو الكتاب الذي فنّد فيه، على نحوٍ شبه توثيقيّ، المشروع الصحافي والفكري للأستاذ هيكل. لكنّ الفيلسوف قد غالى هو الآخر في نقد هيكل، ودفع به إلى حافّة الوطنيّة.

تذكّرتُ كتاب الدكتور فؤاد زكريا “كم عُمر الغضب؟” وأنا أراقب تطوّرات الأزمة بين روسيا والغرب، ولقد ارتأيتُ أن أطرح السؤال ذاته بشأن روسيا: كم عُمر الغضب؟ أو.. كم عُمر القلق؟

كانت الإمبراطورية الروسيّة واحدة من أكبر إمبراطوريّات العالم، وقد حكمت عائلة “رومانوف” البلاد ثلاثمئة عام

الإمبراطور الأخير

كانت الإمبراطورية الروسيّة واحدة من أكبر إمبراطوريّات العالم، وقد حكمت عائلة “رومانوف” البلاد ثلاثمئة عام.

في عام 1613 تأسّست أسرة “آل رومانوف”، وفي عام 1917 سقطت العائلة وانهارت الإمبراطورية، ثمّ في عام 1918، وبعد عام واحد من السقوط، قام النظام الشيوعي الجديد بإعدام جميع أفراد العائلة المالكة، حيث جرى ترتيبهم بشكل بروتوكولي بحجّة التقاط صورة فوتوغرافية، ثمّ تمّ إطلاق النار عليهم جميعاً، وكان في مقدّمهم الإمبراطور نيقولا الثاني الذي أصبح “الإمبراطور الأخير”.

في مطلع القرن العشرين بدأت مسيرة القلق الحديثة في روسيا. ففي عام 1905 جرى تدمير الأسطول الروسي في حرب اليابان، وفي عام 1905 أيضاً اشتعلت الثورة في البلاد، ثمّ في الحرب العالمية الأولى قُتِل أكثر من ثلاثة ملايين روسي، وبعد ذلك كانت الحرب الأهليّة بعد الحرب العالمية.

100 عام على الاتّحاد السوفيتي

امتدّت سنوات الحرب الأهليّة من سقوط الإمبراطورية عام 1917 حتّى تأسيس الاتحاد السوفيتي عام 1922، حين أصبح العالم على موعد مع أكبر إمبراطورية شيوعية في التاريخ، امتدّت سبعين عاماً حتى سقوطها عام 1991.

لم ينتهِ القلق بنجاح الثورة الشيوعية ونهاية الحرب الأهليّة، بل زاد القلق من جرّاء المواجهات الأيديولوجيّة في الداخل، والمواجهات السياسية في الخارج. كان قلق الاتحاد السوفيتي متعدّد الأبعاد: القلق من المجتمع الذي لم يتقبّل الفكر الشيوعي على نحوٍ تامّ، والقلق من الصين التي قادت تجربة شيوعية منافسة، ثمّ القلق من الغرب والنظام الرأسمالي المعادي للشيوعية.

لكنّ حربيْن كبيرتيْن خاضتهما روسيا السوفيتية كانتا الأخطر على مرِّ التاريخ: الحرب العالمية الثانية، وبعدها الحرب الباردة.

في الحرب العالمية الثانية قُتل ثلاثون مليوناً من مواطني الاتحاد السوفيتي على أثر المعارك السوفيتية الألمانية. وفي الحرب الباردة عانت روسيا كثيراً، حتى كان سقوط الإمبراطورية من جديد نهاية التسعينيّات.

كانت روسيا هي التي أسّست الاتحاد السوفيتي، ثمّ كانت هي أيضاً التي أنهت الاتحاد السوفيتي. كان لينين حاضراً في البداية، وكان غورباتشوف حاضراً في النهاية.

ما قبل بوتين

كانت نهايات الإمبراطورية السوفيتية لا تقلّ إيلاماً عن نهايات الإمبراطورية الروسية، فلقد بدَا الاتحاد السوفيتي وكأنّه صرحٌ من خيالٍ.. فهوى!

ثمّ عادت روسيا، في العقد الأخير من القرن العشرين، تعاني في عهد بوريس يلتسين ما سبق أن عانتْه في عهد نيقولا الثاني، حيث سادت الفوضى والفشل، وحيث الضباب الكثيف.. الذي بات يحجب الحاضر قبل المستقبل.

جاء السقوط مدوّياً للغاية.. لقد تحطّم كلّ شيء، وراح علماء الذرّة يبحثون عن عمل، وذهب أساتذة الجامعات للعمل في الشوارع والأسواق، وأمّا رجل الاستخبارات فلاديمير بوتين الذي صار رئيساً بعد عشر سنوات، فقد عمل سائق أجرة لزيادة الدخل.

كان مشهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون وهو يكاد يقع على الأرض من الضحك، وهو ينظر إلى الرئيس بوريس يلتسين، بعد المراهنة على احتساء كأس كبير من مشروب كحولي مرّةً واحدة، معبِّراً عن سعادة واشنطن، التي رأت موسكو تقضي على نفسها بنفسها، وتغيب بذاتها.. ومن دون حاجة إلى تغييبها!

أوكرانيا وما حولها

أدّى صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى سدّة الحكم في الكرملين، إلى تغيير كبير. فلقد عادت روسيا إلى مكانتها وإلى كونها قوّة عظمى في العالم.

 

لكنّ روسيا لا تزال في حالة قلق لم تغادرها. إنّها قلقة من تمدّد حلف الناتو شرقاً، وإلى غرب حدودها. وهي قلقة من الوجود العسكري الأميركي الكثيف على حدودها في دول البلطيق وفي بولندا. وهي قلقة أيضاً من الوجود العسكري الأميركي المتصاعد في البحر الأسود.

تخشى روسيا من أن تتمكّن واشنطن من تعديل معاهدة مونترو التي عُقدت عام 1922، لمناسبة مرور 100 عام على انعقادها، بما يسمح للولايات المتحدة بموجب التعديلات المحتملة بأن يكون لها بشكل دائم حاملات طائرات تحمل أسلحة نووية في مياه البحر الأسود.

تمثِّل أزمة أوكرانيا نموذجاً لِما تريد أميركا ولا تريده روسيا.. فما لا تريده روسيا هو انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وما لا تريده أميركا هو منع روسيا حلف الناتو من ضمّ أوكرانيا.

القلق الأكبر

إنّ القلق الأكبر لروسيا قد لا يتمثّل في التهديد العسكري الأميركي، أو توسُّع الناتو. فبمقدور روسيا أن تردّ، ثمّ إنّ واشنطن لن تصل إلى حربٍ كبرى مع روسيا بسهولة. لكنّ القلق الأكبر إنّما يتأتّى من الأزمة الديموغرافية في روسيا.

روسيا التي تمتدّ على مساحة 17 مليون كيلومتر مربّع، وهو ما يزيد كثيراً على خمسمئة ضعف مساحة بلجيكا، لا يزيد عدد سكانها على 142 مليون نسمة. وتعاني روسيا شأن اليابان وألمانيا من تراجع عدد السكان. وإزاء صعود الصين، ووراءها الهند، في هيكل النظام العالمي، وكلا البلدين عملاق سكاني، وإزاء محاولات الحصار الجيوسياسي الذي تقوده الولايات المتحدة ضدّ روسيا، فإنّ موسكو تجد نفسها في حالة من القلق الدائم.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا: روسيا ثابتة.. أوروبا مرتبكة.. وأميركا ضعيفة

تسأل روسيا نفسها كلّ يوم: كيف يمكننا البقاء قوّة عظمى إزاء التطوّرات السكانية والاقتصادية والعسكرية في عالم اليوم؟ عدد غير كبير من السكان على أكبر مساحة في العالم، وسط عدد كبير من الأعداء، وعدد أقلّ من الحلفاء. وهنا تبدأ دورة القلق من جديد.

تحتاج روسيا إلى أن تطمئنّ، لكنّ أميركا لا تفعل ذلك.

*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…