كيف يرى الروائي معلوف، المتخصّص في الشأن الاقتصادي، والسياسة الدولية، قبل أن يخوض غمار الخيال الإبداعي، مأساة لبنان الأبعد من الخيال؟ في ما يلي استعادة لأبرز ما جاء في الحوار الذي أجرته معه صحيفة “لوبوان” Le Point الفرنسية، في مناسبة انقضاء أكثر من عامين على انفجار مرفأ بيروت.
انفجار المرفأ ليس كارثة طبيعية
روى معلوف: “استغرق الأمر يوماً كاملاً أمام الشاشات، لأدرك أنّ ما حدث في بيروت لم يكن مجرّد حلقة أخرى في الصراع الذي لا نهاية له، والمؤثّر في بلدي الأمّ. من الواضح أنّ هذا ليس انفجاراً نوويّاً، لكنّه ليس انفجاراً تقليدياً أيضاً. لتوضيح ما أقوله، أقارن ذاك الانفجار بهجوم أوكلاهوما سيتي عام 1995، وهو الأكثر دمويّة على أراضي الولايات المتحدة قبل 11 أيلول 2001. وكان سببه قنبلة محليّة الصنع تحتوي أيضاً على نيترات الأمونيوم، وتزن ثلاثة أطنان. “قنبلة” مرفأ بيروت تزن ألف مرّة ضعف ذلك! كان من الضروري وضع هذه الأرقام في الاعتبار لفهم معنى الصور التي عُرضت أمام أعيننا.
“حتى لو انفجرت “القنبلة” مصادفة، فما حدث ليس بالتأكيد كارثة “طبيعية”. لا يمكن تفسير وجود هذه الشحنة من النيترات في هذا المكان، ولسنوات، إلا من خلال رغبة بعض المافيا المحليّة في بيع هذا المُنتَج عندما تتسنى لها الفرصة. ولم تبادر السلطات إلى معالجة الأمر على الرغم من التحذيرات الموجّهة إليها. ذلك لأنّ البلاد تكثر فيها المناطق الخارجة عن القانون، حيث تنغمس الفصائل المختلفة في عمليات التهريب المُجزي. لا شيء من هذا عرَضيّ أو طبيعيّ أو بسبب سوء الحظ”.
معلوف: أن يكون بلد مثل لبنان مستقلّاً اليوم، يعني أن يكون قادراً على قول “لا” عندما يسعى أحدهم إلى جرّه، بالقوّة أو بالترهيب، إلى صراعات لا يرغب الانخراط فيها، وبحيث يكون واضحاً أن ليس لديه أيّ اهتمام بالمشاركة في الصراع
الطائفيّة هي المعضلة
كيف تحوّل بلد واعد مثل بلاد الأرز، صلة الوصل بين الشرق والغرب، إلى هذا الوضع المأساوي؟
يقول معلوف: “ليس من السهل شرح هذا التحوّل. لكنه ليس من النوع الذي لا يمكن تفسيره. من بين عوامل عدة ضارّة، غالباً ما يجري تركيز الاهتمام على البيئة الإقليمية، وهي كارثيّة فعلاً. لكن إذا اضطررت إلى الإشارة إلى العامل الأكثر حسماً – وهو الذي يفسّر أكثر من غيره عدم تمكّن لبنان من مواجهة التحدّيات الكثيرة التي واجهها منذ ولادته – فإنّني سأشير بلا تردّد إلى الطائفية. ليست الإشكالية في التعدّد والتباين في المجتمع. هذا واقع، بل هو سبب وجود لبنان. والأرجح أنه من أدوات نجاح النموذج اللبناني وتأثيره. المشكلة برأيي أنّ المشروع الوطني القاضي بتجاوز الانتماءات المجتمعية المختلفة نحو انتماء وطني مشترك، لم يُتابَع بالجهد والوضوح المطلوبين. لذا أصبح المواطنون مَدينين للقادة السياسيين والدينيين في مجتمعاتهم، وأحياناً صاروا رهائن لدى الزعماء الذين وجدوا أنفسهم بدورهم مَدينين ورهائن لحُماتهم الأجانب. علاوة على ذلك، هناك الاقتصاد الليبرالي الذي يتميّز به لبنان، ويقوم على الخدمات. وقد وفّر بلا شكّ ازدهار البلاد لسنوات عدة، لكنّه لم يتكيّف جيّداً مع مواصفات دولة قويّة تفرض إجراءات تقييدية وضرائب كبيرة، لتكون قادرة على أداء دورها أداءً كاملاً. دفعنا في لبنان ضرائب قليلة جدّاً طوال سنوات. لذا لم يكن لدى السلطات العامّة الوسائل الكافية لتزويد البلاد بنظام حديث للتعليم أو الصحّة العامّة أو الحماية الاجتماعية. يتّضح بعد فوات الأوان أنّ الدولة القوية والحاضرة في كلّ مكان هي وحدها التي يمكن أن توحّد الشعب اللبناني، وتقوّي الروابط بين المواطنين والسلطات العامّة، وتقلّل تالياً من اعتماد اللبنانيين على قادة مجتمعاتهم. وقد أفضى شعور عدم الثقة بدور الدولة إلى تعريض هذا التطوّر الضروري للخطر”.
لن أستسلم أبداً لاستحالة التعايش..
يجيب معلوف: “من ناحيتي، لا يمكنني الاستسلام إلى الفكرة المنتشرة اليوم في القارّات كلها: وجوب أن تنشأ الأمّة nation على الانتماء الديني المشترك. إنّ تأسيس أمّة على انتماء ديني أو عرقي هو فكرة قد تكون صحيحة لكنها خاطئة، وتسبّبت بمآسٍ لا حصر لها عبر التاريخ. وهي غير متوافقة إطلاقاً مع روح بلدي الأمّ. الفكرة التي سادت منذ تأسيس لبنان، هي التقريب بين الناس من جميع الأديان والأصول من خلال تنظيم علاقاتهم، ليشعر الجميع أنّ البلد بلدهم بالتساوي على نحوٍ كامل. بالتأكيد لن أدّعي أنّ هذه التجربة قد نجحت. لكنّني لن أستسلم أبداً للحكمة المتواضعة والكسولة التي تريد أن يكون هذا التعايش مستحيلاً. العالم كلّه فسيفساء من المجتمعات. أوروبا فسيفساء، وكذلك أميركا، إفريقيا، وآسيا. إذا خضعنا إلى منطق التقسيم، يعني أننا موعودون بألوف من الصراعات. السؤال ليس ما إذا كان يمكن للأشخاص المختلفين في اللون أو العقيدة أن يعيشوا معاً، وأن يطلقوا على أنفسهم صفة مواطنين. ولكنّ السؤال هو كيف نجعلهم يعيشون معاً؟ وكيف نُشعرهم بأنّهم جزء من أمّة واحدة؟ وفي هذا المجال، فإنّ التجربة اللبنانية، حتى لو لم تنجح حتى الآن، يجب أن تتكرّر في لبنان وفي غيره، إلى أن تنجح”.
معلوف: أن تكون لبنانيّاً هو أن تكون مؤمناً بعمق بالحاجة الملّحة إلى تعايش متناغم، وربّما حتى إلى تعايش اندماجي، بين مختلف مكوّنات الإنسانية… وفي هذا، أنا لبنانيّ، وسأبقى لبنانيّاً حتى أنفاسي الأخيرة
معنى البلد المستقل
ويقول معلوف: “أن يكون بلد مثل لبنان مستقلّاً اليوم، يعني أن يكون قادراً على قول “لا” عندما يسعى أحدهم إلى جرّه، بالقوّة أو بالترهيب، إلى صراعات لا يرغب الانخراط فيها، وبحيث يكون واضحاً أن ليس لديه أيّ اهتمام بالمشاركة في الصراع.
هذا الاستقلال، فقده لبنان منذ سنوات، ولا بدّ أن يستعيده. وبصراحة، وطني ليس لديه أيّ ميل ليكون ثكنة عسكرية في الصراع العربي – الإسرائيلي. لا مصلحة له في أن يُستغلّ، لا من القادة الإيرانيين ولا من أولئك الذين يحاولون خنقه. لم تكن للبنان مصلحة في التدخّل بالحرب الأهليّة السورية، لا لمساعدة نظام الأسد ولا لمساعدة الثوّار. هذه الانحرافات ناجمة عن فقدان لبنان قدرته على اتّخاذ القرار بنفسه، مثل أيّ بلد راشد”.
كيف يمكن إنقاذ لبنان؟
يرى معلوف أنّ هذا “يتطلّب مبادرة عالمية تضمّ الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة: فرنسا، الولايات المتحدة، روسيا، الصين، والمملكة المتّحدة. أُصرُّ على مشاركة الدول الخمس جميعها، وفي البداية لا أحد سواها، ربّما باستثناء الاتّحاد الأوروبي. معاً، تقيم إدارة موقّتة، مسؤولة عن إعادة بناء الدولة المنكوبة في جميع القطاعات التي لم تعد تعمل، والبدء بإصلاح البنية التحتيّة، شبكة الكهرباء، الطرق والموانئ والمطارات، وإدارة النفايات، لإنعاش الاقتصاد الذي كان مزدهراً في يوم من الأيام، وهو الآن في طريق مسدود. ومن ثم وترميم البنية التحتية الاجتماعية والطبّية والتعليمية، وتحديث المؤسّسات السياسية في البلاد، وتنظيم انتخابات حرّة عندما يحين الوقت… كلّ دولة من “الخمسة الكبار” ترسل على الفور مجموعة من الفنّيين والمديرين الرفيعي المستوى، إضافة إلى وحدة عسكرية للحفاظ على السلام المدني. وتُزوَّد هذه الإدارة الدولية الموقّتة بتمويل كبير، يستمرّ سنوات، ويكون في البداية مسؤولية السلطات الدولية بشكل كامل.
“لا مكان لمفاهيم مثل “التدخّل” أو “التفويض” في الرؤية التي أقترحها. لا تفهموا بشكل خاطئ! مهمّة الأمم المتحدة هي أن تساعد البلدان المحتاجة. لبنان، العضو المؤسّس، وأحد صانعي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، يجد نفسه اليوم في مأزق، ويستحقّ كلّ المساعدة اللازمة للوقوف على قدميه. يجب أن نساعد لبنان مع احترام سيادته وكرامة جميع أبنائه. إنّ وجود القوى الرئيسية في العالم اليوم يضمن عدم حصول تصفية حسابات مع الفصائل المحلّية، ولا مع القوى الإقليمية المختلفة، مع عدم الحاجة إلى اللجوء إلى القوّة المسلّحة… ربّما ليس هذا إلا مجرّد حلم. لكنّني مقتنع بأنّ جميع الأطراف بلا استثناء، في لبنان ومنطقته وعالميّاً، ستكسب كسباً كبيراً من هذه الآليّة. ويبدو لي أنّ فرنسا، التي أبدت تعاطفاً كبيراً مع لبنان بعد المحنة الأخيرة، ولا سيّما مع زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون عقب انفجار بيروت، يمكن أن تكون العمود الفقري لمثل هذه المبادرة العالمية التوافقية. لن تكون عملية الإنقاذ هي الطريقة الوحيدة الممكنة لمنع لبنان من الموت. بل ستكون خطوة حاسمة نحو إعادة بناء نظام دولي جدير بهذا الاسم، إذ ثمّة شعور قاسٍ بغيابه في كلّ مكان”.
يختم معلوف بالقول: “أن تكون لبنانيّاً هو أن تكون مؤمناً بعمق بالحاجة الملّحة إلى تعايش متناغم، وربّما حتى إلى تعايش اندماجي، بين مختلف مكوّنات الإنسانية… وفي هذا، أنا لبنانيّ، وسأبقى لبنانيّاً حتى أنفاسي الأخيرة”.
إقرأ أيضاً: مُذكّرات كوشنر (5): السّلطان قابوس يفاجئ الوفد الأميركيّ..
تعريف بأمين معلوف
هو صحافي لبناني، وروائي عالمي. ولد في بيروت عام 1949. عمل في صحيفة “النهار”، قبل أن يسافر إلى فرنسا ويقيم فيها منذ عام 1976. حصل على أرقى الجوائز الأدبية والتكريمية من بلدان عدّة: منها جائزة غونكور Prix Goncourt عن روايته “صخرة طانيوس” عام 1993. وانتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 2011، ليشغل كرسي العالم الأنثربولوجي الشهير كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss (توفّي عام 2009). كتابه الأوّل والأبرز “الحروب الصليبية كما رآها العرب” عام 1983. وكتابه السياسي الأقرب إلى واقع وطنه لبنان، هو “الهويّات القاتلة” عام 1998.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا