ما طرحته صحيفة “تركيا”، المقرَّبة من الدوائر الحكومية التركية، عن سيناريو أميركي للجنوب السوري، يتلخَّص في دعم تشكيل جيش درزي – سنّي قوامه 30 ألف مقاتل في السويداء ودرعا والقنيطرة، بغضّ النظر عن عدم واقعيته حالياً وعن كونه جزءاً من بروباغندا إعلامية مواكبة للانعطافة التركية في القضية السورية، فإنه يأتي –وهذا هو الأهم- في سياق النظرة المستجدَّة، لدى مختلف الأطراف، إلى الجنوب السوري باعتباره ملفاً مستقلاً، على غرار ما حصل في الشمال السوري الذي يُنظر إليه، منذ سنوات عديدة، كملف خاص ومستقلّ.
في سنوات الثورة الأولى، ظلَّ الجنوب السوري بعيداً عن كونه ملفاً مستقلاً، على عكس الشمال السوري الذي حوَّلته الطموحات القومية الكردية، بسرعة كبيرة، إلى ملفّ مستقل ذي مسار خاص متمايز عن المسار العام لبقية المناطق السورية.
حتى سنة 2015، وهي سنة التدخُّل الروسي وبداية قلب الموازين في سوريا، لم يكن الجنوب بحاجة إلى أن يُطرح كملفّ خاص، طالما أن الملفّ الوحيد كان ملف سوريا كاملةً، وكان النظام في دمشق على وشك السقوط
دروز السويداء والمصالحة المُزيفة
وعلى الرغم من أن الجنوب السوري يحتوي على “مقوّمات” كافية لتحويله إلى ملفّ خاص، إلا أن الموقف العام لدروز السويداء المتلخّص في “الحياد” وعدم المشاركة في القتال، مع النظام أو ضدّه، ورفض الانخراط في المشاريع التي يُشتبه بأنها ربما تحمل بذوراً تقسيمية، صعَّبَ هذا التحوُّل طوال عقد كامل من عمر الثورة في سوريا. ناهيك عن ارتباك الأردن (صاحب الحدود الأطول مع محافظات الجنوب) في التعاطي مع المسألة السورية إلى درجة اتِّخاذه مواقفَ متناقضةً خلال فترات زمنية متقاربة!
حتى سنة 2015، وهي سنة التدخُّل الروسي وبداية قلب الموازين في سوريا، لم يكن الجنوب بحاجة إلى أن يُطرح كملفّ خاص، طالما أن الملفّ الوحيد كان ملف سوريا كاملةً، وكان النظام في دمشق على وشك السقوط.
استمرَّ الحال على هذا النحو، إنما بيقين أقلّ، حتى تمّوز 2018، وهو تاريخ تمكُّن النظام –بمساعدة روسيا- من إعادة سيطرته على محافظة درعا وإبرام “اتفاق مصالحة” أثبتت الأحداثُ زيفَه وهشاشتَه.
منذ ذلك التاريخ بدأت محافظة درعا تعيش حالة “الجمود” ذاتها التي كانت تعيشها جارتها الشرقية (محافظة السويداء).
تشابُه الحالتين بين الجارتين، اللتين تشكّلان معظم الجنوب السوري، قرَّب كثيراً في وجهات النظر بينهما حول مستقبل البلاد. أو بالأحرى عزَّز الاتجاه الواقعي في النقاش الأهلي العام حول الخيارات والحلول.
نيران روسيا وفساد إيران
القناعة، التي ولَّدتها قوَّة النار الروسية، باستحالة إسقاط الأسد عسكرياً، أحدثت تحوُّلاً –على المستوى الداخلي- في المقاربة الأهلية الحورانية نحو مزيدٍ من الواقعية في النظر إلى الجنوب كجغرافيا تحمل مستقبلاً مشتركاً ومختلفاً عن المستقبل القاتم الذي ينتظر العاصمة دمشق. كما أن حالة الفوضى الأمنية غير المسبوقة في السويداء، والتي خلقها نظام الأسد عبر عصابات خطف وجريمة ذات مرجعية أمنية، خفَّفت القيود في النقاش العام حول الحلول الممكنة، والتي لم تعد تستثني حلاً (كان حتى فترة قريبة في خانة “المحرَّم”) يحمل مسمَّى “إدارة ذاتية للجبل”، أو حتى صيغة فيدرالية لعموم الجنوب السوري، بالتشارك مع درعا والقنيطرة.
أما القناعة، التي ولَّدتها الرغبة الإيرانية المحمومة، بتحويل الجنوب السوري إلى ممرّ للمخدّرات (الموجّهة نحو الأردن ودول الخليج) وإلى مستقرّ للقواعد الإيرانية (الموجّهة نحو إسرائيل)، فقد تكفَّلت -على المستوى الخارجي- بإجبار مختلف الأطراف على إعادة النظر في واقع الجنوب ومستقبله والتعامل معه، كالشمال السوري، باعتباره ملفاً مستقلاً له مسارات خاصة غير متطابقة بالضرورة مع مسار دمشق الذي أطبق الإيرانيون عليه بشكل كامل.
ستبقى الخطوة الأميركية المقبلة في الجنوب السوري مرهونةً بالرؤية الإسرائيلية، وأيضاً بمدى الاستجابة الأردنية الخليجية. دون إغفال النتائج المترتّبة على نجاح أو فشل مفاوضات الملف النووي الإيراني
إنَّ “الضحية” الفورية لتحوُّل الجنوب السوري إلى ملفّ مستقلّ، ستكون “النظام المركزي” الذي لم يكن يوماً موضع تشكيك في جدواه، ومن أطراف سورية عديدة، مثل حاله هذه الأيام.
نقاش “المركزية”، الذي أخرجه كُرد الشمال من نطاقه التقني الضيّق إلى نطاق سياسي أوسع، ربما يدفع به ملفُّ الجنوب إلى نطاق أبعد بكثير: النطاق الوجودي لسوريا برمَّتها. بمعنى أن سوريا لتكون موجودةً فيجب ألا تكون “المركزية” موجودة.
وما سيترتَّب عن ذلك، بالطبع، أعقد بكثيرٍ من مجرّد الحوار الوطني المفقود أصلاً.
الجنوب باب حرب إيران على الخليج والأردن
الأطراف الخارجية الأربعة الفاعلة في ملفّ الجنوب السوري (إيران وروسيا وإسرائيل والأردن)، ربما ستنضمّ إليها أطراف أُخرى، كدول الخليج التي سبق لها أن لعبت دوراً بالواسطة من خلال الأردن أيام “غرفة الموك”. لأن الجنوب بات بوَّابةَ الحرب الإيرانية على تلك الدول، من خلال استهدافها مجتمعياً بغزو المخدّرات. يساعدهم في ذلك الموقفُ الأردني المستجدّ، الأكثر حسماً هذه المرَّة، تجاه الحرب على حدوده الشمالية ضدّ هذا الغزو.
أما الموقف الأميركي، الذي يُعتبر الراعي الأول لـ”ملف الشمال الشرقي” من خلال قواعده العسكرية المتناثرة في منطقة شرقي الفرات، فإنه في الجنوب السوري يُعبِّر عن نفسه من خلال الموقف الإسرائيلي الذي يعرف الجميع بأن الصيغ التقسيمية في سوريا هي الأنسب له، بل إنها من “أحلامه” الاستراتيجية.
الموقف الأميركي من “الجنوب” رهن رؤيا الإسرائيلية
لذلك ستبقى الخطوة الأميركية المقبلة في الجنوب السوري مرهونةً بالرؤية الإسرائيلية، وأيضاً بمدى الاستجابة الأردنية الخليجية. دون إغفال النتائج المترتّبة على نجاح أو فشل مفاوضات الملف النووي الإيراني.
إقرأ أيضاً: تونس الآن.. رايتا جند الخلافة وديغول
اليوم يعيش جناحا الجنوب (درعا والسويداء) واقعاً متشابهاً، أقرب ما يكون إلى واقع “الحكم الذاتي” المفتقد للتنظيم وللأمن معاً، مع سيطرة شكلية للنظام، وغزو ثقافي إيراني مسلَّح بالمال والمخدّرات… يترافق ذلك كلّه مع تنامي الشعور العام، لدى أبناء الجنوب، بأن مصيراً متمايزاً عن مصير دمشق لم يعد مجرَّد خيار سياسي، بل إنما هو مسألة وجودية تمسُّ هُويَّتهم الثقافية والاجتماعية والقومية والدينية… تلك الأخيرة التي لم يعد في وسعها أن تصمُّ أُذنيها عن أصوات “اللعن” الآتية من دمشق… حيث “الدمشقيون الجدد” يلعنون الأمويين في عاصمتهم!