أمن الدولة: “جهاز الجرائم”.. من عيتاني إلى عبد السعود

مدة القراءة 7 د

قد تبدو الدعوة إلى حلّ جهاز أمن الدولة شعبوية ومستحيلة في ظلّ الأزمات التي تعصف ببلاد التوازنات الطائفية حيث لكلّ جهاز من الأجهزة اللبنانية هويّته الطائفية، وهذا ليس خافياً على أحد.

لكن في المقابل، فإنّ ترك قيادة الجهاز لهواها، تراكِم الفشل تلو الآخر، وتسجّل الفضائح والارتكابات تحت مسمّى “أمن الدولة”، يطرح جملة من الأسئلة: هل يتبع هذا الجهاز للدولة اللبنانية وقوانينها ومعاييرها الأمنيّة والقضائية؟ أو لأيّ دولة بالتحديد؟ هل هي دولة “العهد القويّ” وحلفائه؟

في الشكل، فإنّ وصول ميشال عون إلى سدّة الرئاسة في العام 2016، أعطى هذا الجهاز دوراً أكبر من حجمه. منحه متنفّساً حتى يجد لذاته “مساحة أمنيّة” من ضمن حصّة “المسيحيين” في الأجهزة. إذا اعتبرنا أنّ رأس قوى الأمن الداخلي للسنّة، ورأس الأمن العام للشيعة.

لفّق الجهاز للمسرحيّ البيروتيّ تُهمة العمالة للعدوّ الإسرائيلي. فنشر اعترافات خياليّة، وأوحى للطبقة السياسية بأنّ عيتاني يخطّط، بإمرة الموساد الإسرائيلي، لاغتيالات تطال سياسيّين لبنانيين

كلّ هذا ساعد الجهاز الذي كان كما لو أنّه يبحث عن دور، خصوصاً في ظلّ تعاظم قوّة الأمن الداخلي وحرفة شعبة المعلومات وإنجازاتها، ودور الأمن العام ومرجعيته، في الداخل والخارج. وقد ساعدته  ملفّاتٌ وقضايا قرّر “العهد” أنّه يريدها بوابته إلى “الإصلاح والتغيير”…

قتل الموقوف السوري

في آخر إنجازاته، أطلّ الجهاز على الرأي العامّ بجريمة قتل الموقوف السوريّ بشار عبد السعود، الذي “قضى تحت التعذيب”، وهي جملة نادراً ما نسمعها هذه الأيام. وفي الصور التي انتشرت، يبدو بشّار “ممزّق” الجسد، ولا يوجد نقطة في جسمه لم يطلها التعذيب القاسي والوحشي أثناء التحقيق. فكما تظهر الصور المرفقة، تكسو الجثّة الكدمات من الرأس حتى أخمص القدمين، في مشهد مرعب. صورٌ ذكّرت من شاهدوها بممارسات مخابرات نظام الأسد، التي ويا للمصادفة، تبيّن أنّ الموقوف فارّ من جيش هذا النظام، وربّما كان هذا دافعاً إضافياً للتعذيب.

في تفاصيل الجريمة، فإنّ فرع مديرية أمن الدولة في قضاء بنت جبيل جنوب لبنان، الذي أشرف على التحقيقات والتعذيب، حاول التملّص من المسؤولية في البداية، لكن بعد تسريب الصور والفيديوهات وتفاعل الرأي العام مع الحادث، طالعت المديريّة الرأي العام برواية مربَكة، أقلّ ما يمكن القول عنها إنّها “عذرٌ أقبح من ذنب”. إذ حوّلت الملفّ من تُهمة “ترويج 50 دولاراً مزوّرة”، إلى اعتراف بـ”انتماء الموقوف لتنظيم داعش”، في محاولة للتلطّي خلف شرعيّة “مكافحة الإرهاب” في مواجهة تنظيم متشدّد، وفي سعي رخيص إلى كسب شيء من التعاطف… وكأنّ الانتماء إلى التنظيمات الإرهابية يبرّر هذه الوحشيّة في التعامل مع الموقوفين.

تبرئة طوني صليبا

بعدما اعترفت المديرية بالفضيحة، كشفت أوساطها أنّ تحقيقاتها ستستمرّ حتى كشف الملابسات، وأعلنت توقيف الضابط حمزة إبراهيم، والعناصر الذين شاركوا في التحقيق مع الموقوف، واتّخاذ أقصى العقوبات بحقّهم (يُقال ستصل إلى الطرد من السلك). بدا هذا “التنصّل” أقرب إلى استغفال الرأي العام مرّة جديدة، بأسلوب يوحي بأنّ هؤلاء العناصر أجروا تحقيقاتهم في أحد أقبية جزيرة “غوانتانامو” المعزولة عن القيادة. في محاولة لرفع المسؤولية عن قيادة هذا الجهاز.

لم تكتفِ المديرية بهذا القدر من التخبّط، بل سرّبت عبر “مصادر خاصة” ومن خلال إحدى الصحف أنّ المسؤوليّة تقع على نائب المدير العامّ العميد حسن شقير، باعتبار أنّ المدير الأصيل طوني صليبا كان خارج البلاد ولا علم له بكلّ ما حصل. وحاولت أن تجعل “المذنب” هو “الضابط الشيعي” وليس “المسيحي”. واستظلّت في الوقت نفسه بقرينة “الارتكاب الفردي” تحت حجّة أنّ الجريمة لن تؤدّي إلى “تراجع المديرية عن مهامّ مكافحة الإرهاب” التي نفّذتها. وأبدت استعدادها لنشر اعترافات الموقوفين “الموثّقة”، التي تتناول تفاصيل انتماءهم إلى “داعش” والمهامّ الموكلة إليهم في لبنان. كأنّ اللبنانيين نسوا حكاية الفنان زياد عيتاني.

بل أكثر من ذلك، وضعت مصادر المديرية “الخاصة” الفضيحة والتسريب في إطار “صراع الأجهزة”، في حين أنّ التوصيف الصحيح لهذا الأمر يندرج تحت مسمّى “الغيرة من الأجهزة”… فشتّان بين جهاز حريص على سمعة البلد وأمنه، وبين آخر مستعدّ لارتكاب “الجرائم” من أجل تسجيل الانتصارات الوهمية لصالح الطائفة أو الزعيم.

مسؤول أمني رفيع أشرف على جانب من التحقيقات، لـ”أساس”: تدخّل أمن الدولة والدفع لتلحيم باب العنبر رقم 12، هو سبب الحريق الذي فجّر العاصمة. لولا أمن الدولة لبقيت النيترات في المرفأ داخل العنبر إلى اليوم

أبرز جرائم “أمن الدولة”

فلنعد بالذاكرة إلى الملفّات التي صنعت “صورة” جهاز “أمن الدولة” في الأعوام الستة الأخيرة، من عمر العهد العوني وسياساته، ستوصلنا “الأجندة” الخاصّة، إلى خريطة طريق تؤدّي كل طرقها إلى بعبدا:

في ملفّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة: أخفق الجهاز في ممارسة دور “الضابطة العدليّة”، أوّلاً في مواكبة قاضية متفلّتة من أيّ ضوابط، هي مدّعي عام جبل لبنان غادة عون. فبعدما كفّت يدها أعلى جهات قضائية لبنانية (مدّعي عامّ التمييز)، سجّلت رقماً قياسيّاً في مسلسل “العراضات” الأمنيّة بين شارع الحمرا ومنطقة الرابية، في مشاهد Tom & Jerry، بين “غادة ورياض”. وكان هذا الجهاز يد غادة عون الأمنية، التي ساعدتها على عدم إحراز أيّ تقدّم سوى محق هيبة القضاء وربطها بالشعبويّة.

في ملفّ شركة ميشال مكتّف للصيرفة: كان الأمر مشابهاً أيضاً، حيث شهدنا اقتحامات وكسر أبواب وخلعها، من دون الوصول إلى أيّ نتيجة، وذلك باعتراف أقرب مَن واكب القاضية غادة عون وجهاز أمن الدولة في تلك الغزوات لمنطقة عوكر، المحامي رامي علّيق، الذي انقلب عليها لاحقاً و”فضحها”. وصولاً إلى ختم الشركة بالشمع الأحمر، وعدم تحريرها إلّا بعد تلطيخ سمعة مالكها وتقريبه من الإفلاس، ووفاته قهراً لاحقاً.  

في ملفّ الفنان زياد عيتاني: لفّق الجهاز للمسرحيّ البيروتيّ تُهمة العمالة للعدوّ الإسرائيلي. فنشر اعترافات خياليّة، وأوحى للطبقة السياسية بأنّ عيتاني يخطّط، بإمرة الموساد الإسرائيلي، لاغتيالات تطال سياسيّين لبنانيين. ثمّ ثبُت زيف هذا الكلام، الذي تسبّب لاحقاً بجعل أيّ تهمة عمالة للعدوّ يضبطها أيّ جهاز أمنيّ موضع شكّ إلى حين إثبات العكس. “تبهدلت” العمالة على يد جهاز أمن الدولة، الذي حوّلها إلى فعل استنسابيّ قابل للاستغلال في تصفية الحسابات السياسية، إن كان لصالح “العهد” أو لصالح أزلامه أو حلفائه في بعض المرّات. ولولا نقل ملفّ عيتاني إلى “فرع المعلومات” بعد ضغوط سياسية على الجهاز وعلى رئاسة الجمهورية في حينه، لَما ظهرت الحقيقة ولَما ظهر زيف كلّ ما قدّمه الجهاز من قرائن للرأي العام، ولربّما كان عيتاني إلى اليوم مرميّاً في السجن.

قد تبدو الدعوة إلى حلّ جهاز أمن الدولة شعبوية ومستحيلة في ظلّ الأزمات التي تعصف ببلاد التوازنات الطائفية حيث لكلّ جهاز من الأجهزة اللبنانية هويّته الطائفية، وهذا ليس خافياً على أحد

التقصير الفاضح

النتيجة كارثية:

فشل هذا الجهاز في ادّعاء مواجهة شبكات إسرائيل، فكانت النتيجة قضية ظلم اسمها زياد عيتاني.

وفشل في ادّعاء مواكهة الإرهاب، فقتل موقوفاً تحت التعذيب، في حين كان هناك على بعد كيلومترات قليلة من مكان قتل الشاب السوري، شبانٌ يضعون عبوة وهمية تحت سيارة الصحافي حسن شعبان، من دون أن يتدخل أيّ جهاز، ومن دون أن يعتبرها قضية “أمن دولة”.

إقرأ أيضاً: 3 يرفعون الدولار: سلامة والمحروقات والإنترنت

وبعد الجريمة الجديدة، بات أكيداً أنّ هذا الجهاز مارس دوراً كاريكاتورياً، يشبه دور غادة عون، فلا أوقف سارقاً ولا منع إرهاباً ولا واجه إسرائيل، بل فقط كان الذراع الأمنية العونية، التي سيطويها رحيل عون من قصر بعبدا خلال أسابيع قليلة.

بات لزاماً على المعنيّين إعادة النظر في مهامّ هذه المديرية فور رحيل راعيها وحاميها والمدافع عنها: ميشال عون…

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…