تركيا – اليونان: أسماك بحر إيجه.. لا تعرف ما ينتظرها

مدة القراءة 7 د

عاديّ جدّاً أن يحذّر الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان أثينا من أنّها ستدفع “ثمناً باهظاً” في حال واصلت انتهاك المجال الجوّيّ لبلاده و”التحرّش بالمقاتلات التركية” فوق بحر إيجه، وأن يدعوها إلى عدم نسيان ما جرى في إزمير عام 1922، في إشارة إلى إخراج القوات اليونانية من الأراضي التركية. لكنّ الجديد هو اتّهام اليونان باحتلال جزر قريبة من اليابسة التركية في إيجه، وإعلان تركيا أنّها مستعدّة لفعل ما يلزم عندما يحين الوقت.

فما الذي أغضب الرئيس التركي على هذا النحو؟

عاديّ جدّاً أن يحذّر الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان أثينا من أنّها ستدفع “ثمناً باهظاً” في حال واصلت انتهاك المجال الجوّيّ لبلاده و”التحرّش بالمقاتلات التركية” فوق بحر إيجه

مثلّث برمودا المتوسطي

التأزّم التركي – اليوناني مزمن وقديم يتّصل بملفّات خلافية ثنائية وإقليمية. وهو بقي كلاميّاً أمام العدسات ولم ينتقل إلى الساحات على الرغم من كلّ التصعيد الذي كان آخره في نهايات صيف عام 2020 في شرق المتوسط بسبب أعمال التنقيب عن الطاقة. لكن ما يجري مختلف في أسبابه وأهدافه كما يبدو هذه المرّة.

يظهر إلى العلن يوماً بعد آخر ما جرى في الثلث الأخير من شهر آب المنصرم في مياه ساخنة أصلاً في فصل الصيف، ويُراد تسخينها أكثر من ذلك. هذه المياه توحِّد شرق المتوسط وبحر إيجه في “مثلّث برمودا الجديد”، داتشا ومرمريس وكريت، حيث تتقاسم تركيا واليونان النفوذ، الذي كاد أن يشعل الجبهات لولا وساطات آخر لحظة نجحت في تأجيل موعد المواجهة كما يبدو. تتحدّث المصادر الإعلامية في تركيا عن أكثر من 5 عمليات تحرّش واستهداف مباشر لمقاتلات تركية من طراز “إف 16” نفّذتها رادارات صواريخ سام 300 التي اشترتها قبرص اليونانية من روسيا وسلّمتها بعد اعتراضات أميركية وتركية قبل سنوات إلى أثينا، التي تعهّدت بدورها بوضعها في مخازن جزيرة كريت وعدم تشغيلها.

تقول المعلومات إنّ منظومة الصواريخ الروسيّة بيد اليونان تحرّكت من دون تردّد لتوجيه صواريخها باتّجاه الطائرات التركية التي كانت تواكب القاذفة الأميركية “ب – 52” خلال مهامّ عسكرية بأوامر أطلسية، وإنّ واشنطن كانت على علم بكلّ هذه التفاصيل لأنّ قواتها كانت تؤدّي هذه المهامّ في الأجواء الدولية للمنطقة بالتنسيق مع القوات التركية.

توتر بعد استقرار

في أوّل زيارة رسمية لرئيس تركي إلى اليونان منذ 65 عاماً، دعا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان اليونانيين إلى تعزيز العلاقات في مطلع كانون الأول 2017، موضحاً أنّ العلاقات السلبية بين البلدين “باتت من الماضي”، معتبراً أنّ “الاستقرار والأمن هما أهمّ مبدأ بالنسبة إلينا، وعلينا أن نحمي مصالح الدولتين في هذا الإطار”. وكان رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتشوتاكيس يقول من ناحيته في آذار المنصرم بعد زيارة تركيا إنّه “يجب أن نلتقي ونتباحث.. كنت واثقاً أنّه يمكننا تنحية التوتّر جانباً والتركيز على الأجندة الإيجابية بين البلدين، وهذا ما حدث”.

أمّا اليوم فإردوغان نفسه يهدّد بقوله “اليونان ليست ندّاً لنا سياسياً ولا عسكرياً ولا اقتصادياً، فاعلموا ذلك”. ثمّ يعقّب رئيس الوزراء اليوناني على المواقف التركية الأخيرة بقوله: “لا يمكننا قبول تهديدات دولة حليفة لنا في الأطلسي، وموقف تركيا المتشكّك في سيادة اليونان على الجزر سخيف”.

طرح وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو أكثر من مرّة مسألة “إعادة بحث السيادة” اليونانية على الجزر المتنازَع عليها والقريبة من اليابسة التركية. لكنّ إردوغان ذهب أبعد من ذلك بكثير اليوم. فهو يصف هذه الجزر بـ”المحتلّة” في تصعيد غير مسبوق، ويلوّح أنّ قوات بلاده ستتحرّك في “ليلة مظلمة” باتجاهها إذا ما واصلت أثينا استفزاز أنقرة وخرق الاتفاقيات والتعهّدات، فهل تقع الكارثة؟

 

جغرافيا بحرية متداخلة

نتحدّث عن حوالي 3 آلاف جزيرة وبقع صخرية منتشرة في مناطق صراع النفوذ السيادي التركي – اليوناني، بعضها يتبع اليونان ولا يبعد عن اليابسة التركية سوى مئات الأمتار فقط، وسط جغرافيا بحريّة متداخلة متشابكة، وعن خلافٍ يتعلّق برسم حدود المياه الإقليمية للبلدين وتحديد المدى الذي يصل إليه الجرف القاري لكلّ منهما. لكنّ أنقرة تتّهم جارها اليوناني هذه المرّة بتسليح الجزر القريبة من السواحل التركيّة في بحر إيجه والمصنّفة “منزوعة السلاح” بموجب الاتفاقيات الدولية، وأبرزها لوزان 1923 وباريس 1947، التي منحت هذه الجزر لليونان، وبتحريك منصّات “إس 300” الروسية ضدّها، وباستعداده لإعلان قرار توسيع رقعة المياه الإقليمية من 6 إلى 12 ميلاً بحريّاً باتجاه اليابسة التركية. وهذا ما سيكون كافياً ليدفع تركيا إلى الردّ عبر التقدّم نحو الجزر المجاورة لها وإشعال الجبهات في إيجه.

فهل تقدِم حكومة ميتشوتاكيس على خطوة بهذا الاتجاه تجنّبت الحكومات اليونانية السابقة الحديث عنها؟

أليكسيس تسيبراس، زعيم المعارضة في اليونان، الذي سبق أن طالب برحيل ميتشوتاكيس باعتباره “حوّل اليونان إلى حليف مطيع لواشنطن، ودمّر العلاقات اليونانية الروسية”، يقول اليوم إنّ “هدف الحكومة هو افتعال هذه الأزمة مع أنقرة للذهاب إلى انتخابات مبكرة في البلاد والتغطية على الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تمرّ بها اليونان منذ سنوات”. فهل ينجح في انتزاع زمام المبادرة ويعيد الأمور إلى سابق عهدها بين أنقرة وأثينا؟ أم أنّ النبرة القومية المتصاعدة هي التي ستتقدّم وتحرّك المقاتلات والمسيّرات والصواريخ؟

 

اصطفاف إقليمي ضد تركيا

عند البحث عن أسباب الغضب التركي علينا تذكّر ما قاله رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون من أنّ الرئيس رجب طيب إردوغان فتح قنوات حوار مع اليونان، لكنّ حكومة كيرياكوس ميتشوتاكيس لم تنتهز هذه الفرصة، بل راح رئيس الوزراء اليوناني “يحرّض واشنطن في أيار المنصرم على أنقرة ويطالبها بعدم بيع مقاتلات “إف 16″ حديثة لها”. ولذلك قرّرت أنقرة إلغاء اجتماع المجلس الاستراتيجي مع اليونان، وقال إردوغان إنّه لم يعد هناك أحد اسمه ميتشوتاكيس بالنسبة لي.

تريد اليونان أن تلعب ورقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمجموعة الأوروبية ضدّ تركيا، فيما أنقرة متمسّكة من ناحيتها بنسف الاصطفاف الإقليمي السباعي الذي بُني ضدّها قبل سنوات في شرق المتوسط وحاول تهميش دورها ومصالحها بدعم وتخطيط يونانيَّين – فرنسيَّين. لا يمكن فصل زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية أنقرة عن التوتّر التركي اليوناني الأخير. لكنّ تركيا متمسّكة بوجود دعم فرنسي يشجّع القيادة اليونانية على هذا التصعيد ضدّها في إيجه وشرق المتوسط، والدليل هو إهداء مقاتلات رافال في محاولة لقطع الطريق على النفوذ التركي الإقليمي الصاعد.

إقرأ أيضاً: أنقرة – دمشق: استدارة بطعم “الزنزلخت”؟

مواجهة عسكرية؟

سيتحوّل التوتّر التركي اليوناني عاجلاً أم آجلاً من أزمة سياسية دبلوماسية كلاسيكية مزمنة اعتدنا عليها منذ عقود إلى مواجهة عسكرية بين البلدين لانعدام الرغبة الحقيقية في الذهاب إلى طاولة مفاوضات تفتح الطريق أمام إيجاد سبل حلحلة وتسويات في ملفّات خلافية شائكة ومعقّدة ذات طابع ثنائي وإقليمي. قد تكون المواجهات الشاملة مستبعدة، لكنّ الاشتباكات المحدودة حول الجزر غير مستبعدة ما دام إردوغان يتحدّث عن احتلال وضرورة إنهاء هذه الحالة الشاذّة لجزر يونانية تبعد مئات الأمتار عن اليابسة التركية وتريد أثينا ترسيم حدودها البحرية على أساسها.

قد لا يسمح الوضع الاقتصادي للبلدين في خوض حرب طاحنة طويلة الأمد، لكنّ المواجهات العسكرية المحدودة حول الجزر القريبة من اليابسة التركية لا مفرّ منها عاجلاً أم آجلاً، لأنّه كما ترى أنقرة لا بدّ أوّلاً من تحذير أثينا من خطورة الإقدام على خطوة توسيع رقعة مياهها الإقليمية، وثانياً من تذكير أميركا وفرنسا بأنّ الشيك العسكري والاقتصادي على بياض المقدّم لأثينا لن ينفع عندما تشعر أنقرة أنّ الهدف هو محاصرتها في إيجه، وثالثاً من إلزام ميتشوتاكيس بالعودة إلى طاولة الحوار التي غادرها بتشجيع أميركي وفرنسي.

لو تعرف أسماك بحر إيجه ما ينتظرها… لبدأت بالقلق.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…