بعد شهر وثلاثة أسابيع، يصبح ميشال عون وصهره جبران باسيل خارج قصر بعبدا. يعدُّ اللبنانيون الأيّام، بل الدقائق، التي تفصلهم عن نهاية فصل فقط من هذا الكابوس اللبنانيّ الطويل.
أخذ الكابوس مجده إبّان “العهد القويّ” الذي بدأ في العام 2016، وتبيّن أنّه “عهد حزب الله” الذي لا يهمّه ما يحلّ بلبنان واللبنانيين ومستقبل أولادهم، خصوصاً المسيحيّين منهم.
إلى الرابية خوفاً من العقوباتت
من الآن، يمكن القول، بكلّ راحة ضمير، إنّ الكابوس اللبناني لن ينتهي في 31 تشرين الأوّل المقبل عندما يجد ميشال عون نفسه مضطرّاً للعودة إلى حيث كان يقيم في الرابية بغير محض إرادته. سيجد نفسه مضطرّاً إلى الخروج من القصر الرئاسي لسبب في غاية البساطة: معرفته أنّ عقوبات أميركيّة وأوروبيّة ستُفرَض عليه وعلى أفراد من عائلته، ردّاً على أيّ خرق منه للدستور. ولا شكّ في أنّ عون وباسيل يعرفان معنى العقوبات الأميركيّة، خصوصاً بعدما طالت الصهر بموجب قانون ماغنتسكي المتعلّق بالفساد.
سيكون الخروج من بعبدا في لحظة انتهاء ولايته بمنزلة خسارته الورقة الأخيرة التي كان الثنائي الرئاسي (عون – باسيل) يعتقد أنّه يمتلكها في مواجهته رئيس الوزراء المكلّف نجيب ميقاتي وحكومته المستقيلة، لفرض حكومة جديدة يتمتّع فيها صهر رئيس الجمهوريّة بالثلث المعطِّل.
ليس مهمّاً انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة خلفاً لميشال عون. فمثل هذا الرئيس لن يغيّر شيئاً، مثلما لم يغيّر شيئاً انتخاب مجلس جديد للنوّاب استناداً إلى القانون العجيب الغريب المعمول به منذ العام 2018
رهان على السلاح المذهبي
للأسف الشديد، لن يكون يوم 31 تشرين الأوّل 2022 الذي ينتظره معظم اللبنانيّين من الطوائف والمذاهب والمناطق كلها، على أحرّ من الجمر، نهاية الكابوس اللبناني الطويل، بل سيكون بمنزلة تمديد للكابوس في ضوء العجز عن تمديد العهد. هذا الكابوس الذي بدأ مع توقيع اتفاق القاهرة في خريف 1969 وتُوّج بوصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهوريّة في خريف 2016، مرشّحٌ للاستمرار نظراً إلى أنّ في أساسه ميليشيا مذهبيّة مسلّحة. عملت هذه الميليشيا منذ أربعين عاماً على تهديم مؤسّسات الدولة اللبنانيّة، على نحو منهجي، استكمالاً لِما حصل إبّان الانتشار الفلسطيني المسلّح بعد العام 1969.
يرحل ميشال عون وصهره عن الرئاسة، لكنّ الكابوس باقٍ. كلّ ما في الأمر أنّ الثنائي الرئاسي استُخدم في إطار خطّة مدروسة وُضعت منذ سنوات طويلة استهدفت تهجير المسيحيّين وشرذمة السُنّة وتهميش الدروز. استهدفت الخطة أيضاً تدمير المقوّمات الأساس في لبنان، بدءاً من القطاع المصرفي وانتهاءً بالنظام التعليمي وملفّ الكهرباء، مروراً في طبيعة الحال بعزل لبنان عن محيطه العربي وقطع الطريق على أيّ تحقيق جدّيّ، محلّيّ أو دوليّ، في كارثة انفجار مرفأ بيروت.
يظلّ كابوس السلاح المذهبي المرتهَن للأجندة الإيرانية في أساس الانهيار الذي حلّ بلبنان. ويظلّ رهان جبران باسيل على سلاح “حزب الله” – وهذا ما انطوى عليه ظهوره الأخير – الرهان الوحيد على إمكان فرضه رئيساً للجمهوريّة، كي يأمل اللبنانيّون بنهاية للكابوس في يوم من الأيّام.
مرشد الجمهورية.. والنووي
من هذا المنطلق، ليس مهمّاً انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة خلفاً لميشال عون. فمثل هذا الرئيس لن يغيّر شيئاً، مثلما لم يغيّر شيئاً انتخاب مجلس جديد للنوّاب استناداً إلى القانون العجيب الغريب المعمول به منذ العام 2018. جاء نوّاب تغييريون، معظمهم في حاجة إلى تغيير، أقلّه استناداً إلى البيان المضحك المبكي الذي أصدروه وحدّدوا فيه مواصفاتهم لرئيس الجمهوريّة المقبل.
بدا هؤلاء النواب، في معظمهم، وكأنّهم يؤدّون هذه المرّة امتحاناً خطّيّاً للحصول على شهادة في “الوطنيّة” من الأمين العامّ لـ”حزب الله” حسن نصرالله. يتجاهلون أنّ في أساس الكابوس اللبناني وجود سلاح هذا الحزب ودوره المهيمن الذي يمارسه على البلد ومرافقه كلها. كيف يمكن حصول أيّ تغيير من أيّ نوع في لبنان من دون الكلام صراحة عن معاناة البلد من الاحتلال الإيراني، ومن وجود “مرشد” للجمهوريّة اللبنانية تسيّره أجندة إيرانية ولا شيء آخر غير ذلك؟
من يحتاج إلى تأكيد ذلك يستطيع طرح سؤال: هل يستطيع لبنان الاستفادة من توقيع صفقة أميركيّة – إيرانية في شأن الملفّ النووي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، أو من عدم توقيع مثل هذه الصفقة؟
لبنان “الورقة”
الجواب لا وألف لا. استطاع سلاح الحزب تحويل لبنان إلى مجرّد ورقة إيرانيّة. لا وظيفة أخرى للبلد خارج هذه الوظيفة. بات لبنان، في ظلّ “العهد القويّ”، على هامش كلّ ما يدور في المنطقة والعالم. عندما يقبل حزب مسيحي مثل “التيّار الوطني الحرّ” أن يكون مجرّد غطاء لسلاح “حزب الله”، لا يعود هناك ما هو مستغرب. ولا يعود مستغرباً حتّى ترداد جبران باسيل أمام مجموعة من الصحافيين ما سبق أن أعلنه حسن نصرالله عن المعادلة العسكريّة بين لبنان وإسرائيل في ما يتعلّق بحقل كاريش. يحاول باسيل تقديم أوراق اعتماده مجدّداً إلى “حزب الله”.
سيظلّ لبنان في حال استنزاف ما دامت لم تتحدّد البوصلة الحقيقية والواضحة للمعركة الأخيرة التي يخوضها اللبنانيون فيما صار مصير بلدهم على المحكّ. إنّها معركة كابوس الاحتلال الإيراني ولا شيء آخر. كلّ ما تبقّى، من نوع الرهان على رئيس جديد للجمهوريّة، مضيعة للوقت. يعود ذلك إلى أن لا مجال لانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة يتمتّع بحدّ أدنى من الوطنيّة الحقيقيّة والروح السياديّة في ظلّ وجود السلاح الإيراني الذي يحمي كلّ ما له علاقة بالفساد والفاسدين وفوضى السلاح.
إقرأ أيضاً: سؤال “المقاومات” عن أدوارها في الاقتصاد
ثمّة حاجة إلى جمهوريّة، قبل الحاجة إلى رئيس للجمهوريّة، في بلد قضى فيه ميشال عون وجبران باسيل على كلّ أمل بالحياة اللائقة.
كلّ ما تبقّى تفاصيل وأحلام ورديّة بوجود “المدينة الفاضلة”… أو “جمهوريّة أفلاطون!”.