صناعة الحياة تلفزيونيّاً
كيف يمكن وداع صيف المغتربين اللبنانيين العائدين لزيارة أهلهم وللسياحة والاستجمام في بلدهم الأول المنكوب؟
بعد مساهمة الإعلام اللبناني الكبرى اللاهثة في تغطية انتفاضة 17 تشرين 2019 وتنشيطها ونقلها إلى البيوت، ثمّ متابعته أخبار الانهيار المالي والاقتصادي الكبير الذي تلاها، وصولاً إلى انشغاله بتفشّي وباء كورونا وبالانتخابات النيابية في أيار 2022، سئم هذا الإعلام أخيراً من الانتفاضة وخاتمتها المأسوية بانفجار مرفأ بيروت، ومن النكبة الاقتصادية والانتخابات، فاستعاد في مطلع هذا الصيف عادةً قديمةً آفلةً منذ بداية الحروب الأهليّة (1975- 1990)، وهي تمجيد موسم السياحة والاصطياف، وقصر الدعوة إلى المشاركة فيه على لبنانيّي الاغتراب، وتوسّلهم، من دون المصطافين والسيّاح العرب والأجانب، لنجدة أبناء بلدهم المنكوبين علّهم يساهمون في التخفيف من مصابهم.
غادر المصطافون من المغتربين. ساعدونا على وقف انهيار الليرة لأشهر، وفور بدء طائراتهم في المغادرة، أخذت تنهار الليرة مجدّداً من 28 إلى 35 ألف ليرة. وعدنا إلى انتصار الانهيار وثقافة مريديه
حتى نشرات الأخبار التلفزيونية المحليّة الكئيبة والمملّة، والمنشغلة بمماحكات ترسيم الحدود البحرية ونفطها وغازها ومفاوضاتها، وبانتخابات رئاسة الجمهورية، خصّصت طوال هذا الصيف فقرات في مطالعها المسائية لريبورتاجات عن المواقع السياحية، والنشاطات والمهرجانات الفنّية في المدن الساحلية والبلدات الجبلية. وحرصت المحطّات التلفزيونية على تضمين هذه الفقرات تذكيراً بأنّ جمال لبنان وحبَّ أهله الحياةَ وفرحَ الحياة أصيبا بنكسةٍ قاهرة، ويحتاجان إلى لبنان المغترب لتجاوزها والخروج منها.
شادي فيّاض مثالاً
شادي فياض المولود عشيّة الحروب الأهلية سنة 1974 في حارة صخر قرب جونية، والذي يعمل في تنظيم الحفلات والنشاطات الفنّية ومهرجاناتها منذ العام 2005، ويملك عدداً من الشركات العاملة في مجالها، وهو شغوف بعمله هذا، يعتبر أنّ “المنظومة السياسية اللبنانية (يسمّيها “العصابة”) هي التي أوصلت لبنان إلى حاله المزرية التي يعيشها اليوم. ويتلطّى أركان هذه العصابة خلف طوائفهم وهم يختطفون البلد لحماية مصالحهم الخاصّة من خلال النهب وسرقة أحلام أهله وشبّانه وشابّاته وطموحاتهم، ودفعهم إلى الهجرة منه بعد إفقاره. عملت العصابة على تقويض حبّ اللبنانيين ثقافةَ الفرح بالحياة التي يعتبرها فياض كنزَ لبنان، وتلازمُ حياة أهله وتاريخ بلدهم، ولا يمكنهم العيش بدونها، ولا بدون الانفتاح والحرّية”.
يقرُّ فياض بأنّ “المسيحيين اللبنانيين كانوا سبّاقين في ابتكار هذه الصورة لبلدهم ونشرها”، معتبراً أنّها انتقلت، تاريخياً، بالعدوى أو بـ”القوّة الناعمة” بعد نشأة دولة لبنان الكبير، إلى فئات واسعة من الجماعات والطوائف اللبنانية المسلمة، فشاعت وترسّخت في نمط عيش شرائحها الحديثة، من شمال لبنان إلى جنوبه. ودليله على ذلك زمن ما قبل الحروب الأهلية، وزمن ما بعد اتفاق الطائف الذي شهد نهضة في قطاع الخدمات السياحية وإحياء المهرجانات الفنية. وقد ساهمت شركاته في تنشيطها منذ العام 2005، في طرابلس وبيروت وصور، إضافة إلى الأرز وجونيه وجبيل وسواها من المناطق.
أمّا المنظومة-العصابة التي يتّهمها فياض بتقويض صورة لبنان التاريخية، فتشمل أقطاباً ولفيفهم في الطوائف اللبنانية كلّها، أقلّه منذ وصول ميشال عون إلى منصب رئاسة الجمهورية، وترقى إلى عودته من باريس إلى بيروت سنة 2005، وإغرائه وغوايته جمهوراً واسعاً من المسيحيين بشعاراته المخادعة الكاذبة، لتحقيق جشعه الكبير إلى السلطان والثروة، ولو من طريق جرّ فئات واسعة من المسيحيين إلى اعتناق أفكار وممارسات سياسية تخالف توجّهاتهم التاريخية وتدمّرها: انفتاح لبنان وموقعه المتوازن في السياسة الإقليمية والدولية، وثوابته الداخلية القائمة على التسامح والحرّية والسلام والعيش المشترك. وهذا ما سمح قبل الحروب الأهلية وبعدها بترسيخ ثقافة الفرح بالحياة المناقضة لما ساد في حقبة الحرب الطويلة، وعملت حقبة الحريرية السياسية على إحيائها واستعادتها.
يعتبر فياض أنّ ثقافتين متناقضتين ومتصارعتين في لبنان اليوم: ثقافة الحرب السوداء، التهديد والوعيد والتخوين والقتل والموت، وثقافة الحياة وفرح الحياة بالسلام والانفتاح، التي يرى أنّها مهمّة نضالية لكلّ لبناني يريد العيش والبقاء في بلده، وإخراجه من نكبته المالية والاقتصادية الراهنة، أي من ثقافة الحرب والموت التي أُغرقَ فيها غصباً وبإرادة غريبة تماماً عن نمط عيش أهله وثوابته التاريخية. لذا يتحسّر فياض على الحال المزرية التي بلغها لبنان اليوم، فيما محيطه، مثل بلدان الخليج ومصر، يتقدّم ويتطوّر، ويتراجع هو وينطفئ وينفضّ عنه أبناء البلدان المجاورة، بعدما كان مثالهم المرغوب في حبّهم الحياة والحرّية والانفتاح والتسامح.
منطقان للمهرجانات الفنّيّة
يقرّ شادي فياض بأنّ المغتربين هم اليوم عصب لبنان الاقتصادي والسياحي، بحضورهم الصيفي وتحويلاتهم المالية لأهلهم المقيمين التي ما تزال تُقدّر بنحو 6-7 مليارات دولار سنوياً. أمّا في ما يتعلّق بأنشطة المهرجانات الفنية والسياحية، فيرى أنّ هناك منطقين يتحكّمان بها، كلاهما ينطوي على قدر من الحقيقة والصواب:
– منطق يرى أنّ الأوضاع الراهنة المزرية اقتصادياً لا تسمح بإحياء المهرجانات والحفلات الفنّية، تضامناً مع أحوال الناس المفقرين الموجعة. وحملت هذه الاعتبارات السيّدة ستريدا جعجع والقيّمين على مهرجانات جبيل مثلاً، على إلغاء المهرجانات في هذا الموسم، بعد تعطيلها في السنتين الماضيتين بسبب تفشّي وباء كورونا.
– أمّا المنطق الثاني الذي يميل إليه فياض ويعتبره الأنجع، من دون أن ينفي وجاهة المنطق الأوّل، فهو الإصرار على إحياء الأنشطة الفنّية والسياحية، بما هو مهمّة ضرورية ونضالية لمقاومة ثقافة الموت السوداء التي يريد معتنقوها أن تسود وتنتصر في لبنان.
يبدو أنّ شادي فياض ينتظر نهاية هذا العهد الرئاسي، كي ينطلق لبنان على دروب النهوض والخلاص، ويعود إلى طبيعته الأصلية في إرساء ثقافة الحياة وحبّ الحياة والفرح الكفيلة بإطلاق الحيوية في الأنشطة الثقافية والفنية ومهرجاناتها الموعودة
شارك شادي فياض في تأييد دعوة ميشال عون إلى تحرير لبنان من الاحتلال السوري في نهاية الثمانينيات. وهو منذ ذلك الحين شرع في إيهام اللبنانيين، وخصوصاً المسيحيين، أنّه مخلّصهم من الذلّ والهوان والاحتلال السوري، وذلك بالكذب والمراوغة اللذين أوصلاه إلى قصر بعبدا الرئاسي، فأطلق شعارات وعَمِلَ ضدّها، إذ قال إنّه ضدّ الوراثة والتوريث السياسيين، وجمع أقاربه ورهطهم لتوريث صهره. قال إنّ سلاح الدولة وجيشها هو السلاح الوحيد الشرعي، وتحالف مع حزب السلاح غير الشرعي. قال إنّه سيعمل على استقلال القضاء، وصادر التشكيلات القضائية ومنعها. قال بالفصل بين النيابة والوزارة، وأطلق شعاره: كرمال عيون صهر الجنرال عمرها ما تتشكّل وزارة.
يبدو أنّ شادي فياض ينتظر نهاية هذا العهد الرئاسي، كي ينطلق لبنان على دروب النهوض والخلاص، ويعود إلى طبيعته الأصلية في إرساء ثقافة الحياة وحبّ الحياة والفرح الكفيلة بإطلاق الحيوية في الأنشطة الثقافية والفنية ومهرجاناتها الموعودة.
بين الحرب الأولى واليوم
كان الطبيب الراحل، ورئيس بلدية حمّانا في الخمسينيات، طانيوس أبو يونس، المولود سنة 1900، قد روى في التسعينيات لكاتب هذه السطور في كتابه “وداع لبنان” (“دار رياض الريس”، بيروت، 2020)، أنّ الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) أوقفت عمل والده في تجارة القمح وطحنه في حمّانا، لأنّ أهلها لم يعد في مستطاعهم شراؤه، بسبب الضيق والحصار والعسر والفقر والتشرّد، فجاع ومات كثيرون منهم. لكنّ حمانا وسائر قرى جبل لبنان انتعشت بما أخذ يتدفّق عليها من المهاجرين اللبنانيين في أميركا. فما من بيت في حمّانا لم يصله صندوق من مهاجر أو أكثر، بُعيد انتهاء الحرب. وكانت تلك الصناديق تحوي الثياب والأقمشة والأحذية، وحتى الإبر والخيطان، إضافة إلى القمح وبعض المال. وليس من المبالغة القول إنّ جبل لبنان عادت إليه الحياة بفضل مغتربيه ومهاجريه في مطلع عشرينيات القرن العشرين.
اليوم، في مطلع هذا الصيف، بعد انقضاء مئة سنة على “ملحمة” نجدة المهاجرين أهلهم في بلدهم الأمّ وتخليصهم من نكبتهم في الحرب الأولى، يبدو أنّ “كلمة سرّ” سحريّة سرت في لبنان، وفي مجتمعه المسيحي تحديداً: المغتربون هم منقذونا من النكبة التي حلّت بنا. وكأنّ السنوات المئة التي انقضت على نشأة دولة لبنان الكبير، لم تغيّر من ذهنية هذا المجتمع سوى أشكال الدعوة إلى التعويل على الاغتراب والمغتربين. فبدل إرسالهم صناديق ثيابٍ وأحذية وقمح وحاجات بيتيّة، ألا فليعودوا هم شخصيّاً إلى بلدهم المنكوب لقضاء عطلتهم الصيفية حاملين دولاراتهم للاستمتاع بصرفها في ربوعه وبين أهلهم. وهم ومستقبلوهم ومضيفوهم يتشاركون في فعل نضاليّ في حبّهم الحياة وفرح الحياة.
إقرأ أيضاً: قدّاس الشهداء: “العهد لكم”
يبدو أنّ كلمة السرّ هذه استُجيبت. ونقلت التقارير الصحافية والتلفزيونية وقائع هذه الاستجابة. ففي هذا الصيف امتلأت بالمغتربين وأهلِهم المقيمين الفنادقُ ودور الضيافة والمنتزهات والمطاعم والحانات والمقاهي في مناطق جبل لبنان. وكأنّما في ذلك رسالة صمود وتحدٍّ ومقاومة وتضامن، ضدّ ثقافة الموت والسواد والحرب والإفقار التي يُراد إغراق البلاد فيها، ما دامت هذه الوسائل وحدها المتاحة، وما دامت الوسائل الأخرى المجرّبة من قبل لم يعد في الوسع استعمالها من جديد.
الآن غادر المصطافون من المغتربين. ساعدونا على وقف انهيار الليرة لأشهر، وفور بدء طائراتهم في المغادرة، أخذت تنهار الليرة مجدّداً من 28 إلى 35 ألف ليرة. وعدنا إلى انتصار الانهيار وثقافة مريديه، على “الصمود السياحي”، وعلى صمود لبنان الذي كنّا نعرفه.