ردّ رئيس الجمهورية قانون السرّيّة المصرفية الذي أقرّه مجلس النواب في نهاية شهر تموز الماضي، بعد 5 أشهر من “الاتفاق الأوّلي” مع صندوق النقد الدولي IMF. وعلّل أسبابه الموجبة بالتعديلات التي كان قد اقترحها في قانون معجّل مكرّر نوّابٌ من كتلته، وهي رفع السرّيّة المصرفية عن “جنرالات” الحقبة الحريرية كلّها، التي يُطلق عليها العونيّون تسمية “30 عاماً من الفساد أوصلتنا إلى هنا”، من موظّفي القطاع العامّ والقضاة والأمنيّين والإداريّين ورؤساء الأحزاب والإعلاميين وكلّ العاملين في الشأنين العامّ والخاصّ… بمفعول رجعيّ يعود إلى العام 1989.
هنا تكمن العقدة المخفيّة.
لكن هذه المرّة يتسلّح رئيس الجمهورية ومعه جبران باسيل بملاحظات سرّبها IMF. فقد نقلت وكالة “رويترز” قبل يومين عن نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي أنّ “الصندوق” أبلغ لبنان بأنّ القانون ما تزال تشوبه “أوجه قصور رئيسية”، وحثّ “المسؤولين اللبنانيين على إجراء جولة جديدة من التغييرات في خطواتهم الأولى نحو إصلاح القطاع المالي”.
هكذا تلاقت ملاحظات الصندوق التقنيّة، التي تتعلّق بمكافحة الإثراء غير المشروع وملاحقة التهرّب الضريبي، وتتبُّع المخالفات المصرفيّة والتدقيق بميزانيّات المصارف، مع “ملاحظات” عون وفريقه السياسي، التي تريد نصب المحاكم لحقبة سياسية كاملة، ضمن سياق “سرديّة” تقول إنّ “السابقين” سرقوا وأثروا وأفقروا، وإنّ “العهد” بريء من دم هذا الصدّيق.
ظروف الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرّ بها لبنان تقضي، لتأمين نجاح التعافي، الرجوع بتاريخ بدء تطبيق أحكام القانون موضوع طلب إعادة النظر لفترة تغطّي على الأقلّ المدى الزمني المسبّب للأزمة
“فِخاخ” مجلس النوّاب
هكذا صاغ عون أسباب ردّه القانون، الذي قيل إنّه وقّعه ثمّ “سحب توقيعه” عنه بعد نشر ملاحظات IMF، فأعاد القانون إلى مجلس النواب، معلّلاً ردّه بالتالي:
– “ظروف الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرّ بها لبنان تقضي، لتأمين نجاح التعافي، الرجوع بتاريخ بدء تطبيق أحكام القانون موضوع طلب إعادة النظر لفترة تغطّي على الأقلّ المدى الزمني المسبّب للأزمة، وبما أنّه يقتضي أيضاً، وفي ما يتعلّق بالعاملين بالشأن العام الذين يؤدّون وظيفة عامّة أو خدمة عامّة، سواء بالتعيين أو بالانتخاب، الرجوع في تطبيق القانون المطلوب إعادة النظر بشأنه ليغطي طيلة الفترة السابقة لصدوره والتي تشمل بداية ممارسة مهامّهم وتستمرّ إلى ما بعد تاريخ استقالتهم أو انتهاء خدماتهم أو إحالتهم إلى التقاعد…”.
هكذا يصير كلّ شيء واضحاً: خليط من السياسة ومن ضرورات المحاسبة، مع الكثير من الكيديّة، إضافة إلى رغبة عارمة في استخدام القضاء في المستقبل لمحاربة الخصوم والدفاع عن “السرديّة العونية”، كما حصل خلال سنوات العهد الستّ، وصولاً إلى كمّ كبير من محاولة التغطّي بملاحظات صندوق النقد الدولي على قانون رفع السرّيّة المصرفية.
لم تسمِّ ملاحظات صندوق النقد سياسيّين ولا إعلاميّين ولا إداريّين. هذه عقلية “لبنانية”. وهنا خلط عون بين رغباته الكيدية التي تكتنزها العونيّة السياسية، وبين ملاحظات تقنيّة من مؤسسة دولية محترمة، من أهدافها وقف الهدر ومحاسبة الفاسدين، بعيداً عن السياسة.
هناك بابان للدخول إلى فهم ما يجري حاليّاً حول القانون الجديد:
1- الباب الأوّل: هذا القانون هو أحد ثمانية شروط في التفاهم الأوّليّ بين لبنان و”الصندوق- IMF”، التي سيؤدّي تطبيقها إلى اتفاق على قرض للبنان، يضخّ بضعة مليارات من الدولارات في ماليّته العامّة، ويضخّ أوّلاً “الثقة” التي تعيد لبنان إلى سكّة الحلّ الماليّ والاقتصادي، أي أنّه باب من أبواب الإنقاذ القليلة.
2- الباب الثاني: سيطال هذا القانون، من ضمن من سيطالهم، “ديناصورات” في المال والسياسة، جمعوا ثرواتٍ بلا حساب، وقد يزجّ في السجون رؤساء سابقين وقادة أمنيّين ونوّاباً ووزراء وإعلاميين وسياسيين وإداريين. لكنّه سيطال أيضاً “من يراه هذا القاضي أو ذاك مناسباً”، ممّن لا ناقة لهم ولا جمل، من ضمن “تسييس القضاء” الذي عشناه خلال سنوات العهد، وقبلها في المرحلة “العضّوميّة”، وبالتأكيد سيكون جزءاً من المشهد السياسي في أيّ عهد مقبل.
دعت مذكّرة IMF المسرّبة إلى منح صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة لكلّ من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع
أسباب الرئيس عون
من هذين البابين يمكن الدخول إلى فهم سبب ردّ رئيس الجمهورية القانون الذي أقرّه مجلس النواب، وسبب تسريب صندوق النقد الدولي ملاحظاته عليه، وكيف جاءت أسباب الرئيس متناغمة مع ملاحظات “الصندوق”.
يجدر التذكير أنّ داخل الكتلة العونية النيابية مَن يُسمّون “حزب المصرف”، وآخرين يُسمّون حزب صندوق النقد. تقول الحكاية إنّ حليفَيْ المصارف دفعا الرئيس عون إلى توقيع القانون، لكنّ جبران باسيل، كما تقول مصادر من داخل “التيار الوطني الحرّ” لـ”أساس”، هو من دفع الرئيس إلى “سحب توقيعه” وردّ القانون إلى مجلس النواب مع “أسباب موجبة” تحاول التناغم مع ملاحظات صندوق النقد.
يتجلّى هذا في هذه الفقرة التي كتبها الرئيس في ردّه: “إنّ كلّاً من لجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع ومصرف لبنان يضطلع بمهامّ يتطلّب القيام بها على أكمل وجه إعطاءهم صلاحيّة طلب رفع السرّية المصرفية عـن الحسابات عند الاقتضاء، ولا سيّما أنّ مسبّبات الأزمة الاقتصادية والمالية التي تصيب لبنان وشعبه لا تنحصر بالجرائم المالية، بل تشمل أيضاً مخالفات متعدّدة ومتمادية للأحكام القانونية والإدارية والمذكّرات والتعاميم”.
دعت أيضاً مذكّرة IMF المسرّبة إلى “منح صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة لكلّ من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع” باعتبارها “الجهات المختصّة” التي يحقّ لها طلب المعلومات بشكل مباشر من المصارف، من دون المرور بأطراف أخرى. وانتقدت ربط آليّة حصول لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان على المعلومات المصرفيّة بمرسوم يقترحه وزير الماليّة ويقرّه مجلس الوزراء، لأنّ هذا التفاف سيعطي “السياسيين” في الوزارة والحكومة، حقّ التدخّل في الآليّة.
الفخّ العونيّ
هذا هو “الفخّ” بعينه، الذي لم يذكره عون في ردّه، لأنّه يناسبه أن يكون للسياسة “يدٌ” في هذه الآليّة، ولأنّه سيظلّ موجوداً، هو وحلفاؤه، داخل الحكومة، وفي قلب مصنع القرار السياسي، على الأقلّ خلال السنوات الأربع المقبلة، بحيازته كتلة نيابية وازنة، وبزنود حلفائه.
لكنّ صندوق النقد ذهب أبعد من عون بأنّ طلب “السماح برفع السريّة المصرفيّة عن مجموعة حسابات بناءً على معيار محدّد، بدل حصر هذه الصلاحيّة برفع السريّة المصرفيّة عن حسابات محدّدة بالاسم فقط”، وهذا كان واحداً من الأسباب التي منعت رفع السرّية المصرفية عن الحسابات المتّهمة بتحويل الأموال خلال السنوات الثلاث الفائتة، لأنّ مصرف لبنان كان يردّ: “الحسابات نظيفة ولم ترتكب أيّ مخالفة”، فيما يمتنع عن رفع السرّية إلا عن حساب محدّد بالاسم.
إقرأ أيضاً: “السرية المصرفية”.. عون يتراجع عن توقيعه
يلتقي وفد من صندوق النقد الدولي النائب كنعان غداً الإثنين عند الساعة العاشرة صباحاً في مجلس النواب، في اجتماع عمل لمناقشة القانون والتقييم الأوّلي لمسؤولي “الصندوق” وردّ رئيس الجمهورية.
بغضّ النظر عن هذا التفصيل السياسي الداخلي يوجد شبه توافق على أنّ صندوق النقد الدولي وجّه صفعة لمجلس النوّاب تقتضي إعادة طرح أوراق القانون على الطاولة من جديد بغية مواءمته مع الملاحظات “الجوهرية” للصندوق كنقطة انطلاق لرزمة إصلاحات ما تزال في علم الغيب.