يلعب النّظام الإيرانيّ دوماً على حبال “التفاوض”. يتجلّى “اللعب الإيرانيّ” في إخضاع الجمهوريّة الإسلاميّة “ملفّاتها المُقلِقة” لفصلٍ وإعادة توزيع بحسب مصالحها.
بالنّسبة للإيرانيين، لا يرتبط ملفّ البرنامج النّوويّ ببرنامج الصّواريخ الباليستيّة ولا التدخّلات الميليشياويّة في شؤون دُول المنطقة. هذا ما استخلصه المسؤولون الأمنيّون العرب الذين يُحاورون نُظراءهم الإيرانيّين.
في جلسةٍ خاصّة، كشفَ مصدرٌ دبلوماسيٌّ عربيٌّ لـ”أساس” عن خلفيّات فصل إيران “توائمها” الـ3 بعضها عن بعض.
الأوّل: البرنامج النّوويّ
البداية بالبرنامج الذي يُقلِق العالم بأسره، البرنامج النّوويّ الإيرانيّ. تُريد طهران أن تُناقش هذا الملفّ مع الإدارة الأميركيّة حصراً.
الدّول العربيّة، خصوصاً المملكة العربيّة السّعوديّة ودولة الإمارات العربية المتحدة، قالت للأميركيين إنّ العرب يُريدون دوراً في أيّ إحياء للاتفاق النوويّ مع إيران. رفضت طهران أن تناقش غير الأميركيين، الذين وعدوا حلفاءهم العرب بتبديد مصادر قلقهم في أيّ اتفاقٍ مُحتمل لإعادة إحياء “خطّة العمل المُشتركة” JCPOA.
يجزم الإيرانيّون أنّ ملفّاً بهذا الحجم لا يُناقَش ولا يُفاوَض عليه إلّا مع الأميركيين. تُريد طهران أن تحصر “النّوويّ” مع الجهة التي بيدها إعادتها إلى نظام SWIFT الماليّ، وأن ترفَع عنها العقوبات، وتفرج عن أموالها المُجمّدة، وهذه الصّلاحيّات هي بيد عاصمة القرار حصراً.
قبل أيّام، في 22 آب، استضافت مصر قمّة عربيّة خُماسيّة في مدينة العلمين، جمعت إلى الرّئيس المصريّ عبد الفتّاح السّيسي كُلّاً من: رئيس دولة الإمارات الشّيخ محمّد بن زايد آل نهيّان، الملك الأردنيّ عبد الله الثّاني، ملك البحريْن الشّيخ حمد بن عيسى آل خليفة، ورئيس الوزراء العراقيّ مصطفى الكاظميّ.
تناولت قمّة العلمين “مواجهة مختلف التحدّيات الدولية والإقليمية الراهنة”، وطبعاً أبرزها الاتفاق النّوويّ، من الخليج العربيّ وصولاً إلى البحر المُتوسّط، مروراً بالبحر الأحمر. وإن دلّت على شيء، فقد دلّت هذه القمّة على أنّ الدول العربية متيقّظة للتّبدّلات السّياسيّة التي يشهدها الإقليم على أكثر من صعيد، ولديها الإرادة السياسية لحماية مصالحها.
الثّاني: برنامج الصّواريخ الباليستيّة
ننتقِل إلى مصدر القلق الثّاني، الصّواريخ الباليستيّة.
لا تُريد إيران أن تُفاوضَ العرب أو الولايات المُتحدة في هذا الملفّ، بل الدّول الأوروبيّة حصراً، باعتبار الصّواريخ البعيدة المدى تُمثّل “مصدرَ قلقٍ” لأوروبا، مثل صواريخ “سجّيل” و”شهاب 1 و2 و3 و4 و5″ و”قدر” و”عاشوراء” و”خرمشهر” التي يراوح مداها بين 1,500 و3,000 كلم. هذا يعني أنّ جزءاً واسعاً من أوروبا يبدأ من بلغاريا ويصل إلى الحدود السّويسريّة – الفرنسيّة في مرمى صواريخ الحرس الثّوريّ.
يُؤكّد هذا ما قاله ذاتَ مرّةٍ في سنة 2017 القائد السّابق للحرس الثّوريّ محمد علي جعفري: “الأمر الذي دفع أعداءنا للجلوس إلى طاولة المفاوضات هي قدراتنا الدفاعية”.
يعتبر الإيرانيّون أنّ صواريخهم لا تُهدّد الأراضي الأميركيّة أساساً، وإن كانت تُهدّد مصالح أميركا في المنطقة والدّول العربيّة، إلّا أنّ هذا التهديد يكادُ لا يُذكَر أمام القوى الغربيّة التي تعتقد أنّ “الصّواريخ الباليستيّة” هي طبقٌ مُتمّمٌ للصحن الرئيسي: “البرنامج النّوويّ”. إذ إنّ الصّواريخ الإيرانيّة التي قد تحمل رؤوساً نوويّة هي تلك التي يزيد مداها على 1,500 كلم، أي إنّها تطول أوروبا.
الثّالث: نفوذ إيران في دول العرب
لم يعُد سرّاً أنّ دولاً عربيّة تعقد حوارات أمنيّة مُنفصلة مع إيران. أبرزها الحوار السّعوديّ – الإيراني الذي بدأ في نيسان 2021 في العاصمة العراقيّة بغداد، وانتقلَ جزءٌ من الحوار الأمنيّ إلى العاصمة العُمانيّة مسقط، حيثُ يُناقش الطرفان الملفّ اليمنيّ، وللحوارِ هذا حديثُ مُفصّل سنتطرّق إليه.
وكُشِفَ أخيراً عن جولات حواريّة ذات طابعٍ أمنيّ أيضاً بين الأردن وإيران، وجرى كلامٌ عن حوار مُماثل مع جمهوريّة مصر.
لا تريد إيران من هذه الحوارات أن تُناقش “نفوذها بشكلٍ كامل”، بل يقارب مفاوضوها مع كلّ دولة على حِدة ملفّاتٍ مُحدّدة، تحت إطار “أمن المنطقة”. إذ تحشر إيران أنفها في كلّ دولة تتجاوز نسبة المُسلمين الشّيعة فيها 10% من عدد سكّانها. وهذا منطلق نقاش يضرب القوانين التي ترعى العلاقات بين الدول، ويخالف الشرائع الدولية، ويفتح الباب أمام كلّ دولة لاحتساب مواطني دولة أخرى واعتبار ذلك “من بين شؤونها” تحت ذرائع قومية أو إثنية أو مذهبية أو عرقية. وهذه حجّة إيران للتّدخّل في لبنان والعراق واليمن وسوريا والبحريْن والمنطقة الشّرقيّة في السّعوديّة.
اليمَن: أوّل الملفّات
استطاع الحوار الأمنيّ بين السّعوديّة وإيران أن يحقّق خرقاً في الملفّ اليمنيّ وصلَ إلى إعلان “هدنة” مُستمرّة منذ أشهر، إلّا أنّ الخرقَ لم يصل إلى حدّ إطلاق عمليّة سيّاسيّة جدّيّة توصِل النّزاع الدّائر في اليمن إلى حلٍّ سياسيّ شامل.
مع بداية النّقاش حولَ ملفّ اليمن، سعى الإيرانيّون إلى التّمسّك بمبدأ أنّ الحلّ ليسَ في طهران، بل عند عبد الملك الحوثيّ في صنعاء. أصرّ السّعوديّون في المقابل على “حقيقة” النّفوذ الإيرانيّ وقدرته على أن يكبح جماح الميليشيات التي تعمَل بإمرة وإشراف وتسليح وتمويل الحرس الثّوريّ.
حاولَ الإيرانيّون “التّملّص” من الطّلب السّعوديّ، فطلبوا من السّعوديّة والإمارات الانسحاب من الأراضي اليمنيّة أوّلاً. رفض التّحالف العربيّ وأكّد أنّه يدعم قوى الشّرعيّة اليمنيّة، وأنّه لا وجود لأيّ قوّات سعوديّة على أراضي اليمن.
وصلَ الحوار إلى الهدنة، لكنّ الحلّ السّياسيّ يبدو بعيداً. تستمرّ ميليشيات الحوثيّ في حصارها مدينة تعز، وتمنع وصول المساعدات الإنسانية إليها، وتخرقُ الهدنة في مُحافظة حجّة على البحر الأحمر.
لا يستطيع أحد أن يجزم أنّ الحوار السّعوديّ – الإيرانيّ قد يصل إلى خواتيم سعيدة للنّزاع اليمنيّ ما لم يجلس اليمنيّون إلى طاولةِ مُفاوضاتٍ ينبثقُ عنها حلّ سياسيّ شامل. وهذا إن حصل سيكون دافعاً إلى التّقدّم في الملفّات الأخرى (العراق، لبنان، وسوريا)، وإن لم يُكتَب له النّجاح، فستتفجّر الملفّات الأخرى… وللحوارِ تتمّة.