الصراع بين التقليد والتجديد هو صراع دائم الحصول في الأحزاب والتنظيمات السياسية والعقائدية التي بلغت من العمر عتيّاً، وهو ما يحصل داخل الجماعة الإسلامية في لبنان. وقد نجح الجناح التقليدي في تحقيق “نصر مبين” على الجناح التجديدي في انتخابات مجلس الشورى التي جرت أخيراً، وذلك بدعم وإشراف مباشر من رئيس حركة حماس في غزّة وقائدها الفعلي يحيى السنوار. والأخير بعدما حسم الصراع داخل “حماس” لصالحه على حساب خالد مشعل وفريقه، باتت له “اليد الطولى” على قرار الجماعة الإسلامية في لبنان.
على نهج العدالة والتنمية
كان الفريق التجديديّ والإصلاحي الذي يقوده الأمين العام المنتهية ولايته عزام الأيّوبي، إلى جانب نائب الجماعة الوحيد عماد الحوت، وأحمد العمري مرشّح هذا الفريق للأمانة العامّة خلفاً للأيّوبي، وبعض القيادات الأخرى، بدأ يتقدّم الصفوف داخل الجماعة منذ بدايات الربيع العربي عام 2011.
ومع توالي النكسات والخيبات التي أصابت الإخوان المسلمين، استمرّ هذا الفريق بالصعود متّكئاً على انضوائه تحت راية المحور التركي – القطري بالكامل، متبنّياً رؤية إصلاحية تستلهم تجارب إخوانية سياسية مثل حركة النهضة التونسية، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وبالتأكيد التجربة الأبرز والأنجح، ألا وهي حزب العدالة والتنمية التركي.
تشير المعلومات إلى ارتفاع حظوظ الشيخ مصطفى الحريري بأن يصبح أميناً عامّاً، ومحمود بديع (قائد قوات الفجر) نائباً له. وبذلك تكتمل هيمنة الجناح التقليدي على قرار الجماعة الإسلامية
على الرغم من نجاح هذا الفريق في إيصال عزام الأيّوبي إلى منصب الأمانة العامّة عام 2016، خلفاً لأحد أبرز الرموز التقليدية إبراهيم المصري، وهو من مؤسّسي الجماعة، إلا أنّه لم يتمكّن من الإمساك والسيطرة على قرار الجماعة بالكامل. بل على العكس، لمْ تكد تمرّ أشهر قليلة على انتخابه حتّى بدأ الأيّوبي يشتكي، في الدوائر الضيّقة من المقرّبين والمحازبين، من “جماعة عميقة” داخل التنظيم تهيمن على مقدّراته، وتعرقل تطبيق مشروعه في تحويل الجماعة إلى تيّار سياسي سنّيّ وازن. وبلغ اليأس لديه مبلغاً دفعه إلى طرح استقالته على الطاولة خريف العام 2017. لكنّ تدخّل خالد مشعل، رئيس حركة حماس بالخارج حاليّاً، وإبراهيم منير، الأمين العامّ للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، والاتّصالات والزيارات المكّوكية لقيادات التنظيم الدولي بين اسطنبول وبيروت، أدّت إلى ثني الأيّوبي عن الاستقالة.
مَن هي “الجماعة العميقة”؟
تتألّف الجماعة العميقة، حسب معلومات “أساس”، من ثلاثة مكوّنات رئيسية داخل الجماعة الإسلامية:
– إمبراطوريات الجمعيّات والمؤسّسات التربوية والصحّية والاجتماعية، التي تتلقّى دعماً ماليّاً وازناً من الخارج، وتبلغ قيمة وارداتها السنوية حوالي 30 مليون دولار.
– الجناح العسكري المعروف بـ”قوات الفجر” بقيادة محمود بديع (أبو خالد)، الذي يتولّى قيادة هذا الجناح في صيدا والجنوب ولبنان منذ مطلع التسعينيّات.
– الجناح الأمنيّ الذي أُعيد تفعيله بقوّة إبّان ولاية الأمين العامّ الأسبق إبراهيم المصري، وحظي بصلاحيّات مفتوحة، وأغلب أعضاء هذا الجهاز موظّفون في حركة حماس ويتقاضون منها رواتب شهرية.
هذه “الجماعة العميقة” هي العصب الأساسي للفريق التقليدي، وتضغط منذ سنوات من أجل التحالف مع حزب الله والانضواء تحت راية حلف الممانعة، ولا سيّما أنّ الجهازين العسكري والأمني ينسّقان بالكامل مع حزب الله، ويعقدان معه لقاءات دورية لم تنقطع أبداً.
إنّ هذا التقارب الحميم مع حزب الله تظهر في طيّاته اللمسات الإبداعية لحركة حماس، وبالتحديد لجناح السنوار – العاروري، الذي لديه تأثير كبير داخل أروقة الجماعة الإسلامية. بيد أنّ الضغط “الحمساوي” للانصهار مع حزب الله أدّى إلى حصول استقالات داخل الجماعة لوجوه فاعلة قرّرت الابتعاد عن المشهد لرفضها هذا التوجّه الذي تراه بمنزلة انتحار سياسي.
قيادة جديدة على يمين حزب الله
ومع النصر “المبين” الذي حقّقه الفريق الأصولي التقليدي وجماعته العميقة في انتخابات مجلس الشورى، والذي وصل إلى حدّ فشل النائب عماد الحوت ومرشّح الأمانة العامّة الشيخ أحمد العمري في الفوز بعضويّة المجلس، باتت الطريق معبّدة أمام انتخاب أمين عامّ جديد للجماعة الإسلامية يحظى برضى حزب الله.
تجدر الإشارة إلى أنّ إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، نقل إلى عزام الأيّوبي وقيادات الجماعة في زيارته الأخيرة للبنان رفض حزب الله المطلق لانتخاب أحمد العمري أميناً عامّاً جديداً بسبب ولائه لتركيا وخطابه العالي السقف ضدّ الحزب.
وتشير المعلومات إلى ارتفاع حظوظ الشيخ مصطفى الحريري بأن يصبح أميناً عامّاً، ومحمود بديع (قائد قوات الفجر) نائباً له. وبذلك تكتمل هيمنة الجناح التقليدي على قرار الجماعة الإسلامية. فقد سبق له السيطرة على المكتب السياسي عقب استقالة رئيسه “النائب عماد الحوت الذي أُحرج فأُخرج، وذلك بعد إعداد مضبطة اتّهام بحقّه لأنّه خرج عن قرار الجماعة وأحجم عن انتخاب الرئيس نبيه برّي رئيساً للمجلس النيابي، بالإضافة إلى لقائه أحد مندوبي “الشيطان الأكبر”، وهو مسؤول أميركي كان يزور لبنان، من دون التنسيق مع الإخوة في الجماعة، وخاصّة الجناح المقرّب من حزب الله، وبالتالي ارتكب كبيرة من الكبائر في قاموس هذا الجناح أوجبت إسباغ الحُرُم عليه وتعيين علي أبو ياسين بدلاً منه”.
وتبدو الجماعة الإسلامية وكأنّها مُقبلة على انقسام حزبي، إذ تشير المعلومات إلى توجّه شخصيّات داخل الجماعة إلى إطلاق حزب “الإصلاح والتنمية” المرخّص كحزب سياسي، والانشقاق عن الجماعة وتفريغها من مضمونها السياسي عبر تحويلها إلى جمعية دينية تدير بعض الجمعيّات والمرافق. وسيكون هذا الانقسام في حال حصوله نجاحاً لحزب الله في شقّ صفّ أحد أعرق التنظيمات السنّيّة الذي يقترب من الذكرى المئوية لتأسيسه، فيما عجزت دول وأنظمة عن فعل ذلك.
يمكن اعتبار ما قام به مسؤول الجناح الأمنيّ بمنزلة تدشين للمسار الجديد للجماعة الإسلامية، كفصيل سنّيّ داخل الحرس الثوري الإيراني، أو ربّما بداية التأسيس لـ “حشد شعبي” سنّيّ
العودة إلى الجذور الإخوانيّة
نشأت الجماعة الإسلامية في لبنان ونمت على فكر ومؤلّفات حسن البنّا مؤسّس الإخوان، وسيّد قطب وأبي الأعلى المودودي، وكان الأخيران شديدَيْ التطرّف، وكلاهما نظّر لفكرة “الحاكمية” في الإسلام التي تعود إلى طائفة “الخوارج”، وكفّرا المجتمعات الإسلامية معتبرين إيّاها مجتمعات جاهليّة. وكان الراحل فتحي يكن أول أمين عام للجماعة الإسلامية، وهو الذي صلّى إماماً بجمهور حزب الله بكلّ فخر في ساحة رياض الصلح إبّان الاعتصام الشهير لإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
وعموماً فإنّ النهجين الخمينيّ والإخوانيّ ليسا سوى توأمين سياميّين على الرغم من الاختلاف الشكلي بينهما، وهذا ما دفع الفريق التقليدي داخل العائلة الإخوانية، إنْ كان في “حماس” أو في الجماعة الإسلامية، إلى أنْ يولّي وجهه شطر حزب الله ونظام الملالي طاوياً بذلك سنوات كثيرة من محاولات التجميل وتصدير العقلاء إلى الواجهة السياسية.
تهديدات صحافية
ومن المؤشّرات إلى هذا التحوّل، التي ينبغي التوقّف عندها مليّاً، قيام مسؤول الجهاز الأمنيّ في الجماعة الإسلامية، حسب معلومات “أساس”، بالاتّصال بزميلة لنا في المهنة، وتوعّدها بالويل والثبور وعظائم الأمور فقط لأنّها ذكرت اسمه في مقالة لها.
إنّ هذا التصرّف غريب وخارج عن أدبيّات الجماعة الإسلامية، على الأقلّ خلال العقود الثلاثة الأخيرة. والشخص نفسه كان سبب استقالة مسؤول الجماعة في طرابلس والشمال إيهاب نافع المحسوب على الفريق الإصلاحي، وذلك لقيام جهازه بمراقبة تحرّكات بعض المسؤولين، وتحوّله إلى “كتبة تقارير” بحقّ عدد من أعضاء الجماعة ما يمنعهم من التدرّج الحزبي ويمنح الأفضليّة للمحسوبين على حزب الله.
فصيل سنّيّ في الحرس الثوريّ
يمكن اعتبار ما قام به مسؤول الجناح الأمنيّ بمنزلة تدشين للمسار الجديد للجماعة الإسلامية، كفصيل سنّيّ داخل الحرس الثوري الإيراني.
هذا التحول الخطير إذا ما قُيض له النجاح ستكون له تبعاته الثقيلة على الساحة السنّيّة المشلّعة أصلاً، ولا سيّما مع ما يتمّ التداول به من انفتاح الجماعة الإسلامية على نظام الأسد، وتبرير ذلك بأنّ الدول العربية والخليجية سبقتها على هذا الدرب، وتركيا على الطريق. في حين أنّ الانفتاح العربي أو التركي على سوريا هو من دولة إلى دولة، ولا يمكن مقارنته البتّة بجلوس تنظيم في حضن نظام الأسد الخبير في احتضان الجماعات الإرهابية المتطرّفة وإعادة إطلاقها كي تعيث فساداً وقتلاً عندما يريد.
ربّما يحاول هذا المسار إعادة استنساخ تجربة “دولة الإسلاميين” في طرابلس مطلع الثمانينيّات، التي كانت نتاج حلف مقدّس بين الإخوان المسلمين ونظام الخميني، مستغلّين في ذلك حالة الإحباط المهيمنة على الساحة السنّيّة والفراغ السياسي القاتل الذي تعيشه.
إقرأ أيضاً: الجماعة الإسلامية والانتخابات: عوامل فشل الصفّ القيادي الأول (1)
هنا ينبغي التذكير أنّ حزب الله الذي يحتفي بأربعينيّته كان أضعف بكثير من الجماعة الإسلامية وسواها من التنظيمات عند انطلاقته، لكنّ التراخي في التعامل معه وغضّ النظر العربي والدولي عنه عقب اتّفاق الطائف على الرغم من خطورة مشروعه جعلاه يتحوّل إلى عملاق الإرهاب في المنطقة، وبات يشكّل صداعاً لعدد من الدول الشقيقة والصديقة.
لذلك سيكون ضروريّاً التصدّي للتحوّل الذي بدأت تظهر علائمه في الجماعة الإسلامية قبل أن تتحوّل إلى تنظيم سنّيّ على شاكلة حزب الله لا قِبَل للبنان وللسُنّة بالذات أبداً بتحمّله، و”درهم وقاية خير من قنطار علاج”.