وقّعت الولايات المتحدة صفقة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران في شأن برنامجها النووي أو لم توقّع مثل هذه الصفقة. ليس ذلك مهمّاً. المهمّ أن لا وجود، في الوقت الحاضر، لقيادة أميركيّة ذات رؤية تستطيع فهم تعقيدات المنطقة (الخليج والشرق الأوسط) من جهة، وقادرة على قيادة العالم ولعب دور مؤثّر على الصعيد الإقليمي من جهة أخرى.
ليس ما يدلّ على جهل الإدارة الأميركيّة الحاليّة بالمنطقة أكثر من ابتعادها عنها في مرحلة ما، خصوصاً منذ دخول جو بايدن البيت الأبيض مطلع العام 2021. كانت الحاجة إلى الحرب التي شنّتها روسيا على أوكرانيا كي تدرك واشنطن مجدّداً أهمّية الخليج العربي، خصوصاً المملكة العربيّة السعوديّة، في مجال الطاقة بدل إطلاق تصريحات غير مسؤولة. لا تنمّ هذه التصريحات عن استخفاف بشخصيّات عربيّة معيّنة بمقدار ما تنمّ عن غياب أيّ خطة استراتيجيّة على المستوى العالمي.
على سبيل المثال وليس الحصر، أعلنت الإدارة الأميركية الحالية، على لسان غير مسؤول فيها، نيّتها التركيز على الصين وطموحاتها. إذا بها تترك الصين تقيم أفضل علاقات التعاون مع دول المنطقة في الخليج بدل إثبات أنّها معنيّة بكلّ ما يجري فيها وعلى استعداد للدفاع عن مصالح حلفائها التاريخيين بدل التخلّي عنهم في هذه الظروف بالذات.
لا تبدو الإدارة الحاليّة في مستوى الأحداث التي يشهدها العالم. يؤكّد ذلك استخفافها بالمشروع التوسّعي الإيراني وأبعاده ومدى خطورته على المجتمعات العربيّة. هذا هو الفارق الكبير بين إدارة بايدن وإدارة جورج بوش الأب التي عرفت كيف تتعاطى مع مرحلة ما بعد تحرير الكويت في شباط 1991، ومعنى تفادي السقوط الأميركي في الفخّ الإيراني.
ما يبدو مفتقداً هو إدارة أميركيّة تمتلك رؤية وصفات قياديّة، قيادة تعرف شيئاً عن الشرق الأوسط والخليج، عن العراق تحديداً
كانت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران تبحث عن أيّ فرصة للانقضاض على العراق بعدما أقدم صدّام حسين على مغامرته المجنونة باجتياح الكويت صيف العام 1990. كان لقرار إدارة بوش الأب بحصر مهمّة الجيش الأميركي وجيوش الحلفاء العرب وغير العرب في تحرير الكويت من الاحتلال وإعادتها إلى أهلها أهمّية خاصة. رفض الثلاثي الذي يضمّ بوش الأب ووزير الخارجيّة جيمس بيكر ومستشار الأمن القومي برنت سكوكروفت ملاحقة الجيش العراقي في داخل الأراضي العراقية وصولاً إلى بغداد. كان الثلاثة يعرفون جيّداً معنى سقوط العراق في يد إيران التي سارعت إلى الاستثمار في انتفاضة شعبيّة على نظام صدّام حسين في الجنوب العراقي. تبيّن مع مرور الوقت أنّ الهدف من تلك الانتفاضة الشعبيّة كان زرع الفوضى في العراق بما يسهّل وضع اليد الإيرانيّة عليه. لذلك ركّز المنتفضون، الذين حصلوا على دعم إيراني مباشر، على تدمير المؤسّسات الرسميّة العراقية، ومنها الدوائر العقارية التي أُحرِقت بما فيها من مستندات وسجلّات متعلّقة بإثبات الملكيّات على نحو قانوني.
تفادت إدارة بوش الأب تدمير العراق. فضّلت بقاء نظام صدّام حسين، على الرغم من كلّ مساوئه، وهو نظام راح يتآكل من الداخل، بدل تسليم البلد إلى إيران. كان بوش الأب وبيكر وسكوكروفت يعرفون جيّداً أهمّية العراق وكونه حجر زاوية في استمرار التوازن الإقليمي بين العرب والفرس. هذا ما لم يدركه بوش الابن الذي اتّخذ قراراً بتسليم العراق إلى إيران في العام 2003. تجاهل أبعاد مثل هذا القرار الخطير المستند إلى جهل تامّ بالمعطيات الداخليّة في العراق والمنطقة كلّها ومعنى تمكين ميليشيات مذهبيّة تابعة لإيران من الاستيلاء على السلطة في بغداد.
لم تكن إدارة باراك أوباما أفضل من إدارة بوش الابن. كانت أسوأ من ذلك بكثير عندما اتّخذت قرار الانسحاب العسكري من العراق، وقبله قرار عقد صفقة سياسيّة مع إيران يتولّى بموجبها نوري المالكي رئاسة الحكومة، علماً أنّ الكتلة البرلمانيّة الكبرى، في ضوء انتخابات آذار 2010، كانت كتلة الدكتور أيّاد علاوي المدعوم عربيّاً. استتبع أوباما خطأه العراقي الأوّل بما هو أفظع منه عندما وقّع اتفاقاً في شأن البرنامج النووي الإيراني صيف العام 2015. وفّر ذلك لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” مليارات الدولارات كي تعمل ميليشياتها المذهبيّة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وكي تستثمر في برنامجها الصاروخي الذي يستهدف كلّ دولة من دول الخليج العربي.
منذ الحرب الأميركيّة على العراق، لم يتغيّر شيء في واشنطن باستثناء القرار الكبير الذي اتّخذه دونالد ترامب والقاضي بتصفية قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني لدى مغادرته مطار بغداد ومعه أبو مهدي المهندس نائب قائد “الحشد الشعبي” في العراق. الأكيد أنّ هذا القرار أثّر على إيران، خصوصاً أنّ اغتيال سليماني، الذي كان موجوداً في المنطقة كلّها عبر أدوات مختلفة، خلق فراغاً كبيراً على مستوى استمرار المشروع التوسّعي لـ”الجمهوريّة الإيرانيّة”. لكنّ الأكيد أيضاً أن لا استراتيجية أميركيّة على الصعيد العراقي أو على صعيد التعاطي مع إيران.
في أحيان كثيرة، تبدو إدارة جو بايدن استمراراً لسياسة باراك أوباما. ليس الأمر مستبعداً، نظراً إلى أنّ بايدن أمضى ثماني سنوات نائباً للرئيس الأميركي في عهد أوباما. ليس معروفاً أنّه اتّخذ في يوم من الأيّام موقفاً يُشتمّ منه أنّه يعترض على الخط السياسي لرئيسه في ما يتعلّق بموضوع ما. أسوأ من ذلك كلّه، تبدو الإدارة الحاليّة شبيهة بإدارة جيمي كارتر الذي لم يجد أمامه سوى الاستسلام أمام إيران عندما أقدم النظام الجديد فيها على احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين في طهران، من دون مبرّر، طوال 444 يوماً ابتداء من تشرين الثاني من العام 1979.
إقرأ أيضاً: حرب الاستقلال الثانية في العراق
ما يبدو مفتقداً اليوم ليس صفقة أميركيّة مع إيران توفّر مليارات الدولارات ستستخدمها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في دعم ميليشياتها المذهبيّة في العراق وسوريا ولبنان واليمن… وبرنامجها الصاروخي. ما يبدو مفتقداً هو إدارة أميركيّة تمتلك رؤية وصفات قياديّة، قيادة تعرف شيئاً عن الشرق الأوسط والخليج، عن العراق تحديداً، وما على المحكّ في هذا البلد الذي أدّى انهياره إلى انهيار التوازن على صعيد المنطقة كلّها لا أكثر ولا أقلّ…