الفخّ الصينيّ للولايات المتحدة

مدة القراءة 6 د

تستنزف المنافسة مع الصين السياسة الخارجية الاميركية. ينشغل السياسيون وصنّاع السياسة في الولايات المتحدة في وجود منافس متقارب في الإرادة والإمكانيّات، وتتباين مصالحه وقيمه بشكل حادّ عن مصالح أميركا وقيمها. باتوا يركّزون بشدّة على مواجهة الصين لدرجة أنّهم يخاطرون بعدم الإنتباه إلى المصالح والقيم الإيجابيّة التي ينبغي أن تدعمها الاستراتيجية الأميركية. إنّ المسار الحالي لن يؤدّي فقط إلى تدهور العلاقات الأميركية الصينية إلى أجل غير مسمّى، وزيادة خطر نشوب صراع كارثي، بل إنّه يهدّد بتقويض استمرار قيادة أميركا للعالم، كما حيوية المجتمع الأميركي والديمقراطية داخله.

هناك، بالطبع، سبب وجيه لتكون الصين الأكثر قوّة موضع اهتمام واضعي السياسات والاستراتيجيّين في واشنطن (والعديد من العواصم الأخرى). ففي عهد الرئيس شي جين بينغ Xi Jinping، على وجه الخصوص، أصبحت بكين أكثر استبداداً في الداخل، وأكثر ضغطاً في الخارج… يزعم القادة في كلٍّ من واشنطن وبكين أنّهم يريدون تجنّب حرب باردة جديدة. لكنّ الحقيقة أنّ أميركا والصين منخرطتان فعلاً في صراع عالمي. تسعى الولايات المتحدة إلى إدامة تفوّقها باستمرار نظام دولي يفضّل مصالحها وقيمها. وبالمقابل، ترى الصين أنّ القيادة الأميركية، التي أضعفها النفاق والإهمال، تسعى إلى إجبار الآخرين على قبول نفوذها وشرعيّتها.

يجب على الولايات المتحدة أن تفعل الكثير للاستثمار في قوّة نموذجها ولضمان ألا تقوّض الخطوات المتّخذة لمواجهة الصين هذا المثال من خلال الوقوع في فخّ محاولة إخراج الصين من الصين

يجب أن يكون العنصر الأساسي لنهج أفضل، هو العالم الذي تسعى إليه الولايات المتحدة: ما تريده وليس ما تخشاه. هذا لا يعني التخلّي عن الجهود المدروسة جيّداً لردع العدوان الصيني، وتعزيز الصمود ضدّ الضغوط الصينية، وتعزيز تحالفات الولايات المتحدة. ولكن يجب أن تقترن هذه بمناقشات ذات مغزى مع بكين، ليس فقط حول الاتصال إبّان الأزمات لتقليل المخاطر، لكن أيضاً حول الشروط المعقولة للتعايش، ومستقبل النظام الدولي، وهو مستقبل سيكون لبكين بالضرورة دور في تشكيله.

فخّ ثيوسيديدس؟

في تفسير التوتّرات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، يشير بعض العلماء إلى تحوّلات هيكلية في ميزان القوى. لقد كتب غراهام أليسون Graham Allison عن “فخّ ثيوسيديدس the Thucydides trap”: وهو الفكرة القائلة بأنّه عندما تتحدّى دولة صاعدة ما قوّة راسخة، تنشب حرب من أجل الهيمنة في كثير من الأحيان.

ومع ذلك، فإنّ التركيز على القدرات وحدها يثير مشكلة في حساب التقلّبات والمنعطفات في العلاقات الأميركية الصينية، والتي تحرّكها أيضاً التصوّرات المتغيّرة للتهديد، والفرصة، والهدف. فبعد زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون Richard Nixon لبكّين عام 1972، أصبحت واشنطن تنظر إلى الصين كشريك استراتيجي في احتواء الاتحاد السوفياتي. ومع حقبة ما بعد الحرب الباردة، بدأ صانعو السياسة في الولايات المتحدة بالتحوّط من القوّة العسكرية الصينية المتنامية حتى أثناء السعي إلى تشجيع التحرير الاقتصادي والسياسي للبلاد من خلال تكامل أكبر.

واشنطن وبكين .. من التلميذ ومن الاستاذ؟

وإذا كان هناك من عام يمثّل نقطة انعطاف في نهج الصين تجاه العالم، فلن يكون عام 2012، عندما تولّى الرئيس شي السلطة، لكن عام 2008 حين دفعت الأزمة المالية العالمية بكين إلى تجاهل أيّ فكرة سابقة توحي بأنّ الصين هي التلميذ، والولايات المتحدة هي الأستاذ، عندما يتعلّق الأمر بالحوكمة الاقتصادية. وكان من المفترض أن تكون أولمبياد بكين في ذلك العام إيذاناً بوصول الصين إلى المسرح العالمي، لكنّ الكثير من دول العالم ركّز بدلاً من ذلك على أعمال الشغب في التيبت، التي عزاها المسؤولون الصينيون إلى التدخّل الخارجي، وعلى حملة القمع التي شنّتها الصين لاحقاً. بات الحزب الشيوعي الصيني يركّز بشكل متزايد على فكرة أنّ القوى الأجنبية عازمة على إحباط صعود الصين.

في السنوات التي تلت ذلك، انقلب الحراك الليبرالي إلى ضدّه: اتّخذ الحزب إجراءات صارمة ضدّ تدريس الأفكار الليبرالية وأنشطة المنظمات غير الحكومية الأجنبية، مع سحق الاحتجاجات المؤيّدة للديمقراطية في هونغ كونغ، وبناء نظام رقابة مترامية الأطراف، ومعسكرات اعتقال في شينجيانغ، وكلّها مظاهر لمفهوم أوسع لـ “الأمن القومي”، تحرّكه مخاوف من الاضطرابات. على الصعيد الدولي، تخلّت الصين عن أيّ مظهر من مظاهر التواضع الاستراتيجي.

العالم الذي ينبغي أن يكون

بينما تعيد أميركا النظر في تقدير أهدافها المحلية والدولية، يجب أن تفعل ذلك وفقاً لشروطها الخاصة، وليس من أجل التفوّق على الصين. ومع ذلك، فإنّ بلورة رؤية شاملة وإيجابية للعالم الذي تسعى إليه ستكون أيضاً خطوة أولى نحو توضيح الشروط التي بموجبها سترحّب الولايات المتحدة بالمبادرات الصينية أو تقبلها بدلاً من معارضتها. ستظلّ المصالح والقيم المتباينة للدولتين سبباً في معارضة الولايات المتحدة للعديد من أنشطة بكين، لكنّ هذه المعارضة ستصاحبها رغبة واضحة في التفاوض بشأن شروط النفوذ المتنامي للصين.

يجب على الولايات المتحدة أن تفعل الكثير للاستثمار في قوّة نموذجها ولضمان ألا تقوّض الخطوات المتّخذة لمواجهة الصين هذا المثال من خلال الوقوع في فخّ محاولة إخراج الصين من الصين. يجب تقييم الإجراءات الوقائية أو العقابية، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو دبلوماسية، ليس فقط على أساس أنّها تواجه الصين، لكن أيضاً في كيفيّة تأثيرها في النظام الأوسع، وما إذا كانت تعكس الإخلاص لمبادئ الولايات المتحدة.

إقرأ أيضاً: الودّ المفقود بين الصين وأميركا

لا يمكن أن تصبح المنافسة غاية في حدّ ذاتها. وما دام التفوّق على الصين هو الذي يحدّد إحساس الولايات المتحدة بالهدف، فسوف تستمرّ واشنطن في قياس النجاح بشروط أخرى غير الشروط الخاصّة بها ، لأن ترتيب مراتب الدول هو بناء رمزيّ، وليس شرطاً موضوعيّاً. وإذا كان السعي إلى تحقيق التقدّم البشري والسلام والازدهار، هو الهدف النهائي، كما ذكر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين ، فإنّ الولايات المتحدة لا تحتاج إلى هزيمة الصين من أجل الفوز.

 

لقراءة النصّ الأصليّ: إضغط هنا

جيسيكا تشن وايس Jessica Chen Weiss – Foreign Affairs

مواضيع ذات صلة

برنامج ترامب منذ 2023: الجمهورية الشعبية الأميركية

“سأحطّم الدولة العميقة، وأزيل الديمقراطيين المارقين… وأعيد السلطة إلى الشعب الأميركي“. هو صوت دونالد ترامب الرئيس 47 للولايات المتحدة الأميركية المنتخب يصدح من مقطع فيديو…

20 ك2: أوّل موعد لوقف إطلاق النّار

في حين أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هيرتسي هاليفي أنّ إسرائيل تضع خططاً لتوسيع هجومها البرّي في جنوب لبنان، نقلت صحيفة “فايننشيل تايمز” البريطانية عن…

نصائح أوروبيّة وكوريّة… للتّعامل مع ترامب

تستعدّ الحكومات الحليفة والصديقة للولايات المتحدة الأميركية، كما العدوّة والمنافسة لها، لتحوّلات مقلقة وإدارة أكثر تقلّباً في واشنطن في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية الأميركية مع…

عماد أمهز: عملية خطف أم إنقاذ؟

هل كان القبطان اللبناني الذي اختطفته إسرائيل وادعت أنه مسؤول عسكري في الحزب، عميلاً مزدوجاً؟ سؤال طرحته مراسلة صحيفة “التلغراف” البريطانية من تل ابيب، بشأن…