كثر في مواقع السلطات السياسية والنقدية وحتى القضائية الساكتة افقروا اللبنانيين. بدا إفقار الناس كمهمة أنجزت خلال عامين ونيف. قلما أن شهد لبنان غير الإستثناءات السياسية والاقتصادية. لكن ما يحصل الآن وطبيعته الفظيعة والقاهرة يشكل إستطراداً قاسياً حتى على الإستثناء. يبدو لبنان واللبنانيون كأنهم في عيش استثنائي.
مؤشرات السياسة والاقتصاد كلها مقلقة بسبب من تردٍ قاسٍ فصارت الدولة مهددة. لم تعد الأمور مقصورة ًعلى الأشخاص الذين يجب محاسبتهم وفقاُ لنص قضائي لا سياسي إرتجالي، فهيكل الدولة يتآكل بسرعة في كل المجالات وعلى كل المستويات. الدولة اللبنانية لم يعد لديها بطاقة تعريف، مع إنحدار عامودي مخيف. يمكن أن نكون قد شهدنا الكثير من انواع الإنهيارات الإقتصادية وما يشبهها في فترات الحرب أو حتى قبلها مع بنك إنترا، لكن حتماً لم نشهد ما يماثلها لجهة النتائج.
عندنا انواع كثيرة من الفقر. ليس في الاقتصاد وحده، بل التعريفات تشعبت لتشمل الفقر الثقافي والسياسي، وهذه انواع قد يمكن معالجتها
يربط السواد الأعظم من الناس الفقر والإفقار بالثروة والبحبوحة والقوّة الاقتصادية والقدرة الشرائية والرفاهية المادية، وهذا صحيح وإنّما منقوص. فهنالك أنواع مختلفة من الفقر، وهو ليس بغريب. عندنا انواع كثيرة من الفقر. ليس في الاقتصاد وحده، بل التعريفات تشعبت لتشمل الفقر الثقافي والسياسي، وهذه انواع قد يمكن معالجتها. لكن ما هو عصي على المعالجة هو داء اللبنانيين في الاستغناء عن الدولة. هذا فقر في الوطنية السياسية وهو كارثي كيفما تمت مقاربته. هذا الفقر هو الاكثر حاجة للمعالجة، والخلاص منه يستلزم تكثيف سياسي يتقاطع عنده الجميع.
علقت الدولة في متاهة، بين طموح شعبها وناسها وهشاشة نظامها السياسي. تصارع على وجودها واستمرارية كيانها مع أزمة متداخلة الأبعاد. فكّكت هذه الأزمة المصنّفة من بين الأشرس في العصر الحديث، ركائز الدولة المؤلّفة لحكمها وحوكمتها.
صارت الدولة عاجزة ومن دون ملاءة قانونية ودستورية في السلطات الثلاث ومعها كل قوى الضغط الدولتية من أحزاب ونقابات. العجز أصاب الجميع. وشارك فيه الجميع. مفردة “الجميع” لا تعني “كلهم يعني كلهم”. هي تتأتى من كون هذه البلاد متعددة الأبعاد لتعدد الميول والمكونات الإجتماعية والسياسية. ومن هذا التعدد تتاتى مفردة “الجميع”.
الفقراء الجدد وأنواعهم
الوقائع القاسية في الاقتصاد والسياسة والإجتماع أنتجت طبقات اجتماعية جديدة في لبنان، أهمّها فئة “الفقراء الجدد” وهما “فقر الطبقة الوسطى وفقر التشريع والمشرعين”، فيما يلوح في الأفق ثالث يتصل بالإستحقاق الرئاسي.
1- فقراء الطبقة الوسطى: هم أبرز “الفقراء الجدد” الذين آلت احوالهم إلى سمتوى مأساوي من دون إنذار. هم فئة استفاقت لتجد نفسها فقيرة ومعدمة ولا تعرف السبب، ولا تقدر على المواجهة والمكافحة، وإن عرفته فلن تستطيع أن تغيّر شيئاً من الواقع، فقد تحوّلوا بين يوم وليلة من فئة قادرة إلى أخرى مقهورة ومسروقة. هذه الفئة تتشكل من الموظّفين وأصحاب المهن الحرّة وصغار التجّار ومالكي المصالح المتوسّطة، التي تسيّر عجلة الدولة والدورة الاقتصادية، وهي الطبقة المراهِنة دائماً على والدولة التي تشكّل ضمانتهم وولاؤهم لها، فيما هي غدرت بهم وعجزت عن حمايتهم بضماناتها العقدية والقانونية.
الوقائع القاسية في الاقتصاد والسياسة والإجتماع أنتجت طبقات اجتماعية جديدة في لبنان، أهمّها فئة “الفقراء الجدد” وهما “فقر الطبقة الوسطى وفقر التشريع والمشرعين”، فيما يلوح في الأفق ثالث يتصل بالإستحقاق الرئاسي
يمثّل استمرار تآكل هذه الطبقة خطراً كبيراً على الجمهورية والنظام والفكرة الديمقراطية، وهي الطبقة الوطنية بامتياز التي تحفّز على التطوّر والتقدّم، فالدولة هي ضمانتها الأولى ولا تستطيع الاستمرار خارج نظامها، وهي عصب الدولة ومحور تطوّرها وتجدّدها، وإحدى اهم مواردها. إنّها المصدر الطبيعي والأهمّ للاعتدال والحراك المجتمعي، وهي صلة الوصل في الاستمرارية الاجتماعية، والرادمة للهوّة بين طبقة الأغنياء والفقراء المهمّشين، وتعتبر الكتلة البشرية الأوفى للدولة ولنظامها. وهي متمسّكة إلى أبعد الحدود بنموذجها وقواعدها واستحقاقاتها، والنسيج الأساسي لترسيخ أيّ نموذج ديمقراطي، لذا سيكون غيابها مغامرة ومقامرة.
ستصبح الأحوال المدنية خطيرة، وستنتشر الجريمة والفوضى العارمة، فمن دون هذه الطبقة لا يمكن للمجتمعات النهوض وفق هيكل اجتماعي وحضاري سليم. إنّ في تلاشي هذه الفئة وانضمامها إلى الفقراء فشلاً كبيراً في خطط التنمية، وتعطيلاً لمحرّك التطوّر المتوازن، فكلّما كانت هذه الفئة أكبر حجماً صارت الضمانات الدولتية أعلى. أمّا ذوبانها فخطر حقيقي على استقرار المجتمع والدولة، لأنّها تتميّز برغبتها الشديدة في الاستقرار والتوازن، وهما مصدران للأمن الاجتماعي.
2- “فقراء التشريع الجدد”: إنّهم نواب التغيير والحراك “الثوريون”. هم ما يمكن تعريفه بـ ” الكتيبة 13 ” في مجلس النواب، و”مغاوير التشريع” فيه. كثير من اللبنانيين استبشروا بنجاحهم خيراً، واعتقدوا بقدرتهم على كسر محرمات الأداء السياسي. لكن رهانات المواطنين عليهم خابت بعدما أظهروا هم بأدائهم قصوراً في فهم النظام السياسي وسقطوا في متاهة التسميات. هؤلاء النواب ينقصهم الذكاء التشريعي وحنكة الحراك المؤسّساتي، والفهم الحقيقي للنظام وكيفيّة إدارته، ولمرونة العمل السياسي. فالولاية البرلمانية وتمثيل الشعب ليسا بنزهة. كل المطلوب منهم ، وكان ويبقى، هو أن يبرهنوا لنا من خلال آليّاتهم ومسوّداتهم وخططهم أنّهم قادرون على المواجهة، إذ عليهم التحلّي بالتوازن واليقظة الواقعية داخل أروقة البرلمان، لأنّهم يواجهون كتلاً ومجموعات تمتهن شطرنج السياسة والمكر الإداري ولعبة الأرقام على مستوى رفيع. ففي تصرّفهم الراهن هذا ليسوا ضدّ الكلّ فقط، وإنّما ضدّ أنفسهم وضدّ من ولّاهم أيضاً، فلا نضوج للعملية الانتخابية إلا من خلال توافر عنصرين هما الناخب والمنتخَب، فالناخب أتى بكم، وعليكم أن تثبتوا صحّة قراره وأنّكم على قدر الأمانة والولاية، وأن لا تنزلقوا في ملذّات السلطة وشهواتها بقصد أو عن غير قصد، وأن لا تكونوا نوّاب الصدفة وبرلمانيّي اللحظة أو زوّاراً عابرين تحت القبّة البرلمانية، وأن تكونوا اللبنة الأولى التي تحارب من أجل بناء الناخب الواعي والمؤسّسات الشفّافة ودولة القانون والإنسان، وإلّا فأنتم “الفقراء الجدد”.
إقرأ أيضاً: برد أوروبا في عزّ الصيف
3- “الفقير الرئاسي” الجديد: إنّه النوع الآخر من الفقراء. هو الوافد الجديد الذي يلوح في الأفق من بعيد، وهو الرئيس الجديد للجمهورية، الذي انطلقت عجلة المبادرات والخلوات والرسائل للتفاهم على “مواصفاته” وهويّته على بعد أيام من بداية الاستحقاق الدستوري الأوّل في لبنان. ما نحسب انه يمكن ان يشكل علامة جمع عند اللبنانيين هو أن يكون الرئيس العتيد واضحاً لا ضائعاً بين الأكثريّات والوسطيّات والرماديّات . ولسنا بحاجة إلى رئيس ضعيف الأداء وخائف بحجّة البراغماتية والظروف . كما لا نريد رئيساً قويّاً بحسب رأيهم، فالقوّة ليست بالحاشية وإنّما بقربه من الجميع وتوافقه وحكمته الدستورية المتجرّدة، ولا نريد رئيساً تكنوقراطيّاً لفظيّاً وسياسيّاً كلاسيكيّاً، فنحن بحاجة إلى رئيس لبناني بكلّ ما للكلمة من معنى، يعيد لبنان إلى لبنانيّته، وإلى رئيس يرمّم لنا هيكل الدولة المنخور وبيدر الحقل السياسي السيادي والحيادي في لبنان بحسب الدستور والقوانين. نحن بحاجة إلى شخصية تعيد لنا الانتظام العامّ في البلاد والمؤسّسات، وإلى رئيس يعمل لاستعادة دورنا العربي السياسي ومكاننا الطبيعي، وحراكنا الثقافي العالمي، وثقة المجتمع الدولي بنا. حاجتنا الماسة هي إلى رئيس حاكم وحكم وفق المواطنة المتساوية بين الجميع وعلى أسس متينة وليس إلى قائد فريق، وإلّا فنحن لسنا بحاجة إلى فقير آخر في السياسة لكي يرأس الدولة ويتربّع على سدّة الجمهورية.