في القرن التاسع عشر أدّى اختراع التلغراف إلى تقصير وقت الاتّصال والتواصل بين الناس، وخاصة مع الموفدين السياسيين والممثّلين الدبلوماسيين، ولا سيّما الإعلاميين.
وفي القرن العشرين قلّصت الطائرات النفّاثة المسافات بين القارّات والدول.
والآن أثبتت أجهزة الاتّصال والتواصل الإلكترونية قدرتها على إلغاء الزمن والمسافة معاً. وكرّست فعّاليّتها وأهمّيتها خلال أزمة كورونا التي باعدت بين الناس، شعوباً ودولاً ومجتمعات، وحتى بين أهل الوطن الواحد والمجتمع الواحد.
لم تعُد الدبلوماسية الإلكترونية نكتة.أصبحت واقعاً ملموساً. ذلك أنّه من دون الآليّات الإلكترونية لتحوَّل الانقطاع إلى قطيعة، ولتعثّرت العلاقات وفسدت المصالح، وتعقّدت مفاعيل الأحكام المسبقة عن بُعْد.
أثبتت الوقائع أنّ كثيراً من المشاكل والاضطرابات التي عصفت بالعلاقات بين بعض الدول جرى حلّها من خلال الاتّصال الإلكتروني، أي عن بُعد.
تعُد الدبلوماسية الإلكترونية نكتة.أصبحت واقعاً ملموساً. ذلك أنّه من دون الآليّات الإلكترونية لتحوَّل الانقطاع إلى قطيعة، ولتعثّرت العلاقات وفسدت المصالح، وتعقّدت مفاعيل الأحكام المسبقة عن بُعْد
صحيح أنّ هذه الوسيلة الإلكترونية تلغي “لغة الجسد”، وتحرم الدبلوماسي من قراءة رمشة العين، ومن تفسير حركات الوجه واليدين، ثمّ من بناء الاستنتاجات والأحكام عليها،لكنّها أوجدت الأمر الأهمّ، وهو جسر الاتّصال والتواصل المباشريْن. وساعد عامل السرعة في قطع الطريق أمام عمليّة “التصوّرات الخاطئة”وإصدار “الأحكام المسبقة”.
عرف العالم مؤتمرات دولية كبرى عُقِدت عن بُعد. منها مؤتمر ميونيخ السنويّ في ألمانيا، ومنها المؤتمر الهندي – الباسيفيكي (كواد)، حتى إنّ معظم نشاطات مؤتمر دافوس جرت هذا العام عن بُعد أيضاً. واختار بعض رؤساء الدول تقديم مساهماتهم أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة عن بُعد أيضاً. ولم يقلّل ذلك من أهميّة هذه المشاركات.
حتى إنّ وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن قام بجولة دبلوماسية “عن بُعد” شملت عدداً من الدول الإفريقية، ومنها نيجيريا، حيث اجتمع إلى رئيسها محمد بخاري. وكذلك منها كينيا أيضاً، حيث أكّد على التحالف الاستراتيجي مع رئيسها كينياتا. حدث ذلك من دون أن يغادر كرسيه في مبنى وزارة الخارجية في واشنطن.
قبل انفجارالحرب الأوكرانية جرى لقاء عن بُعد أيضاً بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، إلا أنّ هذا اللقاء لم يغيّر من واقع الأزمة بينهما. وما كان حتى اللقاء الشخصيّ المباشر بينهما ليغيّر من هذا الواقع.
إنّ علاقات الثقة بين الأمم والشعوب المتعدّدة والمختلفة تقوم على التعارف، أي على تبادل المعرفة بأيّ وسيلة كانت لإزالة الاختلافات والتباينات. المهمّ قيام جسر التعارف الذي يحول دون صناعة التصوّرات والقرارات الخاطئة.
في الأدبيّات العامّة يُقال إنّ فلاناً وفلاناً “عقدا صفقة” حول أمر ما، والأمر قد يكون عقاراً، أو عمليّة تجارية أو ماليّة أو أيّ مصلحة مشتركة. وسُمّيت بالصفقة لأنّها تعبّر عن صوت لقاء كفّيْ يدَيْ المتعاقدَيْن من خلال المصافحة. أمّا الآن فإنّ الحاجة هي إلى ابتداع اسم جديد للصفقات التي تتمّ عن بُعد وعبر الأجهزة الإلكترونية.
أذكر أنّني كنتُ مرّة في زيارة لإحدى الدول بدعوة من إحدى جامعاتها. والدولة هي واحدة من مصدّري اللحوم إلى العديد من الدول الإسلامية. وأثناء زيارتي لأحد المواقع المختصّة بهذا الأمر، وجدتُ آلة تسجيل تردّد باللغة العربية: “بسم الله الرحمن الرحيم. سبحان من أحلّك للذبح. بسم الله والله أكبر”. وتتردّد هذه الكلمات في كلّ مرّة يمرّ رأس خروف تحت المقطع.والنتيجة هي أنّ الذبح يستجيب لشروط المشتري من حيث إضفاء شرعية دينية على “الذبح الحلال”.
إقرأ أيضاً: كبسة أصبع… تمحو المستقبل
عليه، تطرح المجتمعات الإنسانية أسئلة من نوع جديد:
– هل تصحّ الشهادة أمام المحكمة عن بُعد؟
– وهل تصحّ الموافقة على الزواج عن بُعد؟
– وهل؟.. وهل؟.. إلخ.
لقد تغيّر العالم.. وهو في حالة تغيّر دائم. ومعه يتغيّر الكثير من المفاهيم ومن الإجراءات التي تترجم هذه المفاهيم.