حكومة “الثلث المعطِّل” العوني لتشريع الـ”عصفوريّة”

مدة القراءة 10 د

القاعدة التي تتحكّم بأحجية تشكيل الحكومة الجديدة لا تختلف عن تلك التي تحكّمت بتشكيل سائر الحكومات في خلال السنوات الستّ من عهد الرئيس ميشال عون، وهي كيف يمكن توزيع الحصص الوزاريّة في شكل يضمن لعون ولرئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل الثلث المعطّل فيها، كي يتمّ التحكّم باجتماعاتها وقراراتها وضمان إدارة طرح المواضيع على جدول أعمالها.

هذا هو فحوى إصرار عون على حكومة ثلاثينيّة بدل صيغة الـ24 المعدّلة الأخيرة، مع تغيير وزيرَيْ الاقتصاد والمهجّرين فقط، التي طرحها الرئيس المكلّف، رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. فزيادة 6 وزراء شرط تسمية عون الثلاثة المسيحيّين منهم ترفع عدد الوزراء الذين يوالون باسيل إلى 11 وربّما 12 وزيراً، من دونهم لا ينعقد مجلس الوزراء، فيسهل ابتزاز ميقاتي وسائر القوى السياسية. ففي الحكومة الحالية المكونة من 24 يمون باسيل على 8 وزراء، وينقصه واحد ليحصل على القدرة التعطيلية. وهو ما سبق أن فعله في حكومة الرئيس سعد الحريريحين احتجز وزراء التيار في وزارة الخارجيةلتعطيل انعقاد جلسة الوزراء وبقي الحريري وبقية الوزراء ينتظرون لساعات في السراي حتى نجحت الوساطات فسمح لبعض وزرائه المشاركة في الجلسة بعد تحقيق النصاب.

مهّد الفريق الرئاسي و”التيار الحر” في الوسط المسيحي لخطة كاملة من أجل تحرّك إعلامي سياسي، يمتدّ إلى الشارع، تحت عنوان أنّه جرى تكليف ميقاتي كي يسعى إلى تشكيل الحكومة

يأخذ الأمر أهميّة قصوى بالنسبة إلى حكومة يُرجَّح أن تدير فراغاً رئاسياً متوقّعاً بعد انتهاء الولاية العونية في 31 تشرين الأول المقبل، ويحتّم الدستور أن تتسلّم صلاحيّات الرئيس. لهذا يفكّر الفريق الرئاسي بصيغة حكومية تمكّنه من تكرار سيناريو قيام باسيل برفض اجتماع حكومة الرئيس تمام سلام في العام 2016، ما دام عون لم يُنتخب للرئاسة. وهو ما تصدّى له رئيس الحكومة في حينها. والنسخة الجديدة من الثلث المعطّل في الحكومة المفترضة برئاسة ميقاتي، ترمي إلى تسليم قرارها إلى باسيل ليضمن موقعه في العهد الرئاسي المقبل، عبر فرض الشروط على أيّ رئيس.

 

انقطاع مداولات التأليف ومطالب الفريق الرئاسيّ

حتى الأوساط السياسية التي لها مآخذ على طريقة إدارة نجيب ميقاتي لعملية التأليف وللمناورات في هذا الشأن، تقرّ بأنّ هذا لا يحجب القناعة بأنّ الفريق الرئاسي يسعى إلى حكومة وفق القاعدة المذكورة، وأنّ هذه هي العقبة الرئيسة التي تحول دون قيام حكومة مكتملة الصلاحيّات الدستورية تتولّى سلطة الرئاسة لتعذّر انتخاب الرئيس.

جرى تجديد الاتصالات بين عون وميقاتي حول التأليف في 17 آب بعد انقطاع منذ مطلع تموز . وإثر اللقاء الثاني بينهما بعدما قدّم الرئيس المكلّف تشكيلته في 29 حزيران، اعترض “التيار الحر” على التبديلات التي طالت 4 حقائب بينها الطاقة وتشبّث الأخير بالاحتفاظ بها. عطّل طول الانقطاع بين الرئيسين التداول في التأليف، مرّة بسبب عدم ردّ القصر الرئاسي على طلب ميقاتي موعداً من عون، ومرّات بسبب تصاعد الحملات بين الأوّل وبين باسيل التي قال فيها كلّ منهما بالآخر ما لم يقُله مالك في الخمر، هجاءً وتهجّماً.

تصرّف ميقاتي على أنّه لا مجال للتفاهم على الحكومة الجديدة، وهو لم يكن يخفي ذلك الاستنتاج منذ تكليفه في 23 حزيران، وحتى قبله، شأنه شأن معظم الأوساط السياسية، التي كانت حساباتها على هذا الأساس. فالمعادلة التي سادت في حينه هي أنّ تعذّر التفاهم على حكومة يعني الاكتفاء بتكليف ميقاتي من دون التأليف وأن تدير حكومة تصريف الأعمال الدفّة حتى انتخاب الرئيس.

ومن المُسلّم به استحالة تلبية طلبات الفريق الرئاسي لجهة “قبع” حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وتعيين بديل منه يختاره عون (اشترطه باسيل أثناء استشارات ميقاتي حول التأليف)، وإقرار تعيينات في مراكز حسّاسة منها قيادة الجيش ومناصب عليا في الإدارة والقضاء والسلك الدبلوماسي.

 

“عصفوريّة” مصرف لبنان و”الحارس القضائيّ”

لإنعاش الذاكرة، فقد سبق التكليف تسريب أسماء اتّصل ببعضها الفريق الرئاسي لتولّي الرئاسة الثالثة، لكنّ “الثنائي الشيعي” أبقى على خيار ميقاتي، بإصرار من برّي على تجنّب الإتيان بمن يلبّي الشروط الباسيليّة.

يقتضي إنعاش الذاكرة أيضاً، استعادة حدث وقع بين تقديم ميقاتي تشكيلته المرفوضة من عون، وزيارتَيْه الأخيرتين له: في 19 تموز اقتحمت قاضية العهد غادة عون مصرف لبنان في إطار ملاحقتها لسلامة فلم تجده في مكتبه. وتقول رواية المصادر الموثوقة إنّ الخطّة كانت أن تختم خزنات المصرف المركزي بالشمع الأحمر، فيعطّل ذلك تعامله مع المصارف والأسواق، ويقع القطاع المصرفي في شلل يُحدث ضجةً ، ويتم إلحاق هذه الخطوة بتعيين حارس قضائي على المصرف المركزي، وتنفيذ المشروع الأساسي للفريق الرئاسي ردّاً على تعذّر إقالة سلامة، فيصبح “الحارس” صاحب الدور الأول في المؤسسة الماليّة الأمّ في البلد.

لكنّ رفض القاضي المناوب في النيابة العامّة الاستئنافية في بيروت رجا حاموش إعطاء الإذن للقاضية عون بدخول المصرف، أحبط الخطّة. وهو الحدث الذي وصفه ميقاتي وشخصيّات أخرى بـ”العصفورية” (مستشفى الأمراض العقلية والنفسية)، وكان سبباً لحملة باسيل عليه متّهماً إيّاه بالفساد وحماية الحاكم. لكنّ مخاطر تكرار سيناريوهات من هذا القبيل وارد.


من خلفيّات إحياء التأليف: حملة مسيحيّة في الشارع

من العوامل التي أفضت إلى إحياء لقاءات التأليف بعد انقطاعها 47 يوماً، إضافة إلى الإلحاح الدولي المتواصل، “حتى لو كانت حكومة لشهر”، يمكن ذكر الآتي:

– مهّد الفريق الرئاسي و”التيار الحر” في الوسط المسيحي لخطة كاملة من أجل تحرّك إعلامي سياسي، يمتدّ إلى الشارع، تحت عنوان أنّه جرى تكليف ميقاتي كي يسعى إلى تشكيل الحكومة لا من أجل أن “يقضي وقته على اليخت في إجازة ويقول في مجالسه إنّه لا حكومة” (كما ردّد باسيل)، وأنّ امتناع الرئيس المكلّف عن التواصل مع رئيس الجمهورية حول التأليف انتقاص من صلاحيّاته الدستورية كشريك في تظهير الحكومة، يبرر المطالبة بتعديل الدستور، عبر وضع مهلة للتأليف يُعتبر بعدها الرئيس المكلّف عاجزاً عن المهمّة، أو بإعطاء الرئاسة حقّ إنهاء التكليف. وشملت خطّة الفريق الرئاسي حملة إعلامية تستخدم حجّة البعض بالتساؤل: لماذا لا يزور ميقاتي عون كما فعل الحريري بعقده عشرات الاجتماعات معه؟ فيما اتّهم البعض الآخر ميقاتي بأنّه يدير ظهره للرئاسة، كما فعل الحريري.

لكنّ التمهيدات لحملة “التيار” تقاطعت مع قوى مسيحية على خصومة مع العونيين، لكنها ترفض تولّي حكومة مستقيلة صلاحيّات الرئاسة. كما تقاطعت مع قوى أخرى ترى أنّ المشكلة ليست في ملء الشغور الرئاسي بالحكومة المستقيلة ، بل عرقلة انتخاب الرئيس الذي بحدّ ذاته يضعف الرئاسة وموقع المسيحيين في البلد. كما أنّ هناك قوى مسيحية ترى أنّه كان على ميقاتي أن يقدّم تشكيلة مختلفة عن حكومته المستقيلة، وأن يعلن أنّ عون رفضها إذا تعذّر عليه إقناعه بها.

استياء برّي وهدف “حزب الله”

– ألحّ رئيس البرلمان نبيه برّي و”حزب الله”، على تأييدهما استمرار ميقاتي في التأليف، مع وجوب قيام الحكومة خلال الأسابيع الماضية، وذلك تلافياً لحملة مسيحية تحرج كلّاً منهما لأسباب مختلفة. فالأوّل ينتقد ميقاتي لأنّه تجاهل مسألة التأليف لأكثر من شهر. ومع أنّ برّي مقتنع بأنّ من يعرقل الحكومة هو جبران باسيل لأنّ شروطه تساوي “لا حكومة”، فإنّه يرى بالمقابل، أنّ ميقاتي لم يحسن المناورة والقيام بواجبه بتقديم التشكيلة تلو التشكيلة واقتراح المخارج المقبولة واكتفى بالقول إنّ تشكيلته التي قدّمها في 29 حزيران هي المقتنع بها.

استاء برّي من تصرّف ميقاتي حين طرح هو في اللقاء، الذي جمعهما مع عون في الأوّل من آب لمناسبة عيد الجيش، سؤالاً عن تفعيل البحث بالحكومة، فأجابه الرئيس المُكلف : “لشو الحكومة؟”.

وتزامن كلّ ذلك مع انتقادات برّي في مجالسه لميقاتي لأنّه “يتهرّب من مسؤولية إقرار الإجراءات المطلوبة من حكومته بهدف إنجاز الموازنة في البرلمان فيتجنّب تحديد سعر الصرف الذي على أساسه ستُحدّد عائدات الخزينة، ولم ينجز خطّة التعافي، ويرمي الأمور على البرلمان، المُطالَب من المجتمع الدولي بالقوانين الإصلاحية كشرط لإنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي”.

لكنّ أوساط ميقاتي تردّ بالقول إنّ انقطاعه عن مداولات التأليف سببه رفض عون تحديد موعد له في منتصف تموز، وإنّه هو الذي فتح باب التواصل باتّصاله بعون لمناسبة عيد انتقال العذراء منتصف آب.

أمّا “حزب الله”، فقد كان يرمي من إصراره على التأليف إلى أمرين : الأول، مراعاة حليفه باسيل وانتقاداته ، لأنّه يحتاج إليه في معركة انتخاب الرئيس الجديد. اما الثاني، فجوهره الوقوف في وجه رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع.

والحزب يتوافق مع باسيل في وجوب تولّي حكومة كاملة الصلاحيّات سلطات الرئاسة في حال الفراغ الرئاسي، الذي قد يلجأ إليه كما في الدورات السابقة لتأخير انتخابات الرئاسة من أجل الضغط للإتيان بالرئيس الذي يريد.

فقد تضطرّ ظروف إقليمية أو تطوّرات أمنيّة الحزب إلى الاستعانة بالحكومة لمواجهتها، والأفضل ألّا تخضع للتشكيك في شرعيّة تسلّمها صلاحيّات الرئاسة. وكما في تأليف حكومات العهد السابقة يرخي الحزب الحبل لباسيل كي ينصب الكمائن، ليبقى التأليف أو عدمه محكوماً بتدخّله لتسهيل الأمور أو لتركها على غاربها.

لكنّ الحزب ينأى بنفسه عن التهويل ببقاء عون في القصر الرئاسي بعد 31 تشرين الاول إذا لم تتسلّم حكومة مكتملة الصلاحيّات الرئاسة، وكذلك عن تهديد الفريق الرئاسي بسحب التكليف، لإدراكه بأنّهما هرطقة دستورية. فلدى ميقاتي اجتهادات دستورية تؤهّل حكومة تصريف الأعمال لتسلّم سلطات الرئاسة.

 

قناتان للتأليف وتوسيع الحكومة

كثرت التسريبات حول تفاصيل ما تداوله الرئيسان عون وميقاتي في شأن التأليف. بعضها كان سهلاً نفيه، لأنّ البحث جرى في الأسبوعين الماضيين عبر قناتين: الأولى في اللقاءين اللذين جمعاهما في 17 و24 آب، والثاني كانت في إعادة إحياة “قناة” صهر شقيق ميقاتي طه، القنصل في موناكو مصطفى الصلح، مع باسيل. كان الفريق الرئاسي ينفي مطالب نُسبت إلى عون، لكن سبق أن طرحها باسيل مع الوسيط القنصل الصلح. وهي قناة ساهمت في تأليف الحكومة الحالية.

إقرأ أيضاً: استعجال الحكومة لتشريع الفراغ الرئاسيّ.. بانتظار فيينا

قيل إنّ المطلوب تعيين وزير دولة عونيّ للشؤون الخارجية، من بين الوزراء الستّة المطلوب إضافتهم وقد يكون باسيل نفسه. ومع الرفض البديهي من ميقاتي للحكومة الثلاثينيّة، ولهذه الأفكار، تردّد أنّ برّي قد يطلب في المقابل تعيين علي حسن خليل وزير دولة للشؤون الماليّة، ردّاً على رفع سقف المطالب العونيّة.

هكذا بدا أنّ ما يُطرح من أفكار ليس سوى ملء للفراغ بالمناورات الكلامية. اما أوساط ميقاتي فترد على منتقدي التأخر في تأليف الحكومة بطرح السؤال الآتي: إذا توصل الرئيسان بعد التسليم بمطالب عون وباسيل إلى حكومة، هل ستحصل هذه على ثقة البرلمان؟. والجواب بالنفي طبعاً.

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…