حلت آواخر الشهر الماضي الذكرى السنوية الأولى لوفاة مفتي البقاع الشيخ خليل الميس صاحب اليد الطولى في بقاء المؤسّسة الدينية السنّيّة في لبنان. أعادتني الذكرى إلى العام 1970 عندما عدت من الأزهر الشريف وكان مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد قد ولّى الشيخ الميس، الذي تخرّج قبلنا من كلّيّة الشريعة بالأزهر، إدارة المعهد الديني ببيروت المسمَّى أزهر لبنان. وخلال العقدين اللاحقين (1970-1990) تخرّجتْ بإدارة الشيخ الميس ثلاثة أجيال من أزهر لبنان مدرّسين وطلاباً وقضاة وعاملين في الشأن الديني والوقفي، ومن بينهم مفتي الجمهورية اللبنانية الحالي الشيخ عبد اللطيف دريان. وعندما استُشهد المفتي الكبير الشيخ حسن خالد عام 1988 توزّع عمل الشيخ الميس، الذي كان الشهيد حسن خالد قد عيّنه مفتياً لزحلة والبقاع، بين بيروت والبقاع حيث أنشأ فرعاً لأزهر لبنان، وهو الفرع الذي تطوّر إلى مؤسّسة استحدث المفتي الميس فيها فرعاً جامعيّاً تدفّق عليه مئات الطلاب والطالبات من البقاع وجهات أُخرى في لبنان والبلاد العربية والإسلامية. وما اقتصر عمل الشيخ خليل على تخريج الطلاب الشرعيين، بل طوَّر برنامجاً مزدوجاً يتخرّج فيه أيضاً طلاب وطالبات الشهادات الرسمية، الذين تعدّدت بذلك خياراتهم بين البقاء في السلك الديني أو الذهاب إلى الجامعات الأخرى في لبنان طلّاباً وأساتذةً فيما بعد.
حلت آواخر الشهر الماضي الذكرى السنوية الأولى لوفاة مفتي البقاع الشيخ خليل الميس صاحب اليد الطولى في بقاء المؤسّسة الدينية السنّيّة في لبنان
فرادة “أزهر” البقاع
سيطرت على فكر الشيخ الميس وعمله فكرة المؤسّسة وروحها. ولذلك انصرف ليس إلى تطوير طرائق التعليم وحسب، بل اقتنى وأوقف بدعمٍ من أهل البقاع وجهات الخير العربيّة والإسلامية أوقافاً شاسعةً زراعية، وبنى أربعة عشر مبنىً لمختلف مرافق أزهر البقاع. وخلال ثلاثين عاماً ظهرت عشرات الجهات، وبخاصّةٍ في شمال لبنان، التي تخرِّج طلاباً في العلوم الشرعية. بيد أنّ أزهر البقاع بقي فريداً من نوعه في التعليم والسمْت (السكينة والوقار) والبعد عن التسييس والحزبيّات. وبعكس كلّ الجهات الأُخرى بقي المفتي الميس ومعاهده تحت ظلّ المؤسّسة الكبرى، مؤسّسة دار الفتوى والجهات التابعة لها، سواء أكانت تعليمية أو وقفيّة.
وعلى الرغم من الكثرة الكاثرة من جهات التعليم الديني خلال العقود الماضية، فإنّ الواقع أنّ مؤسّسات التعليم الديني الجامعي بالذات اتّجهت للانكماش. ولا يعود انكماشها إلى الإدارات الشخصية والحزبية فقط، بل وإلى تضاؤل الرغبة من جانب أهل المدن في إرسال أبنائهم إلى التعليم الديني والاحتراف بعد ذلك بسبب محدوديّة الفُرَص، وما شاع عن التطرّف في تعليم بعض تلك المدارس والمعاهد. وعلى ذلك كلّه ما أزال أرى أنّ الإدارة وروح الرسالة والهمّة العالية تلعب دوراً كبيراً في الإقبال على التعليم الديني العالي. والدليل الأوضح على ذلك الإقبال المنقطع النظير على أزهر الشيخ خليل. وبالطبع بين طلبة أزهر البقاع في شتّى مستوياته أبناء فقراء ولائذون بالتعليم الشرعي، إنّما وجدتُ بلفتةٍ إحصائيّة أنّ طلاباً وطالبات هم من أبناء وبنات المهاجرين اللبنانيين في ديار الاغتراب، فضلاً عن بعض الدول الإسلامية التي تُعطي منحاً لطلّابها للدراسة في أزهر الشيخ خليل بالذات. وقد سألتُ اثنين من آباء الطلبة الآتين من البرازيل فقالا لي إنّ أبناءهما لن يحترفوا “المشيخة”، وإنّما أرسلاهم من أجل التربية وروح المودّة السائدة في ذاك المجتمع الصغير الذي أنشأه الشيخ الميس.
خطوات الميس وإنجازاته
لدينا قضيّتان تجدّد ذكرهما في الذكرى الطيّبة للشيخ الميس. الأولى: ماذا عن مؤسّسة أزهر البقاع؟ والثانية: ماذا عن المؤسّسة الدينية في لبنان؟.
ـ في المسألة الأولى كان الشيخ خليل يذكر دائماً فضل المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد على فكرة المؤسّسة. فهو الذي أنشأ كليّة الدعوة، وصندوق الزكاة، وطوّر مؤسّسات محمد خالد، وهيئة الإغاثة. وقد ذكّرني مراراً بأنّ المفتي خالد كثيراً ما كنّا نراه معنا في صلاة الصبح اهتماماً بهؤلاء الفتية الذين يريدهم أن يتحوّلوا إلى قيادات دينية وقضائية. وعلى الرغم من أنّ الميس سار بخطىً تقطع الأنفاس في الاستقطاب والتوسُّع، فإنّه استطاع إنتاج نخبة علمية ودينية فعليّة، وليسوا جميعاً من البقاع أو لبنان.
ـ أمّا الأمر الآخر الذي نجح فيه المفتي الشيخ الميس فهو الثقة المتبادلة مع المجتمع البقاعي الذي احتضن تلك المؤسّسات الرائعة، وفخر المقيمين والمهاجرين بما تمّ ويجري ويسير. وعلى النخبة ومجتمعها يبقى الاعتماد والأمل في الاستمرار والنموّ والتجدّد. فلنتصوّر مدى الصلابة والروعة في هذه المؤسّسات بجوار سورية وما جرى فيها ويجري بعد العام 2011، وما داخَلَها الاختلال أو التطرّف أو العنف، في حين قامت القيامة في شمال لبنان فيما بين طرابلس وعكّار والمنية، سواء في المساجد أو المدارس. فرحمك الله يا شيخ البقاع العزيز رحمةً واسعةً جزاءَ ما قدّمتَ وخدمْت وحفظتَ من أرواحٍ وعقول.
ولنلتفت أخيراً إلى المؤسسة الدينية بعامّةٍ في لبنان، ومن بيروت إلى طرابلس إلى عكّار إلى صيدا وجبل لبنان والجنوب. نعم نحن نواجه أسماءً كثيرةً لدعاة وعاملين في الشأن الدعوي، القليل منهم فقط مَن تلقّى تعليماً دينياً منتظماً، وحتى الذين أُتيح لهم ذلك كثيراً ما يخضعون لأهواء الجمهور وينافسونه في التزيُّد وصنع المشكلات.
القضاة الشرعيون والمواجهة مع التغيييريّين والمدنيين
وإلى هذا وذاك، فإن المناصب الدينية للمحترفين ليست كثيرة عند السُنّة، لكنّها تبلغ حوالى ثمانين منصباً. والملفّ الديني لا يواجه مشكلة التطرّف فقط، بل الأهمُّ أنّه يواجه الحاجة الملحّة إلى علماء ذوي خبرة وحكمة. هناك مستجدّات كثيرة في العولمة ومنظومات القيم، وفي الأوضاع اللبنانية الخاصّة والرجراجة. هناك إلى جانب مفتي الجمهورية عشرة مفتين للمناطق يواجهون جماهير جديدة وأجيالاً جديدة. وهناك القضاة الشرعيون الذين يواجهون تحدّيات المدنيين والتغييريّين والمطالِبين بإلغاء المحاكم. وهناك المجلس الشرعي المشرف على الأوقاف، وهو مطعَّم بخبراء مدنيين، لكنّ المشايخ المنتخبين للمجلس صار بعضهم من الحزبيين، لقلّة الأكفاء ذوي الخبرة والحكمة في العمل الديني والوقفي.
عندما حصلت على جائزة الملك فيصل في الدراسات الإسلامية عام 2017، اتّصل بي الشيخ خليل الميس واستزارني، فاستحييت منه وقلت: هذا حقٌّ عليّ فأنا لم أزركم منذ ثلاثة أشهر. المهمّ أنّني زرته بناءً على موعد فوجدتُه قد جمع عشرات ظننتهم من الأعوان والإداريين لاستقبالي فهنّأني بالجائزة، ثمّ قال: ماذا تفعل الآن؟ قلت: تقاعدت من الجامعة اللبنانية، وأنا أدرّس بالجامعة الأميركية. فقال لي وهو ينظر في عيون الحاضرين: “أنا أعرض عليك أن تتولّى العمادة العلمية عندنا متفرّغاً لنا فتطوِّر البرامج وتختار الأساتذة، وتُلقي محاضرات عندما تريد على الطلاب، فتقوى السمعة العلميّة لمؤسّساتنا. وكلّ الحاضرين يعرفونك ويقرأون كتبك ويقتنون المجلّات التي تُصدرُها. طبعاً لن نستطيع أن ندفع لك الأجر الذي تحصل عليه من الجامعة الأميركية، لكنّ بين الحاضرين اثنين من المهاجرين قالا إنّهما مستعدّان لإعطاء الأزهر منحة سنوية من أجل دعم مرتّبات الأساتذة ومنها مرتّبك”. أنا فوجئت وقلت للشيخ ضاحكاً: “إذا تولّيت أنا كلَّ ذلك فأنت ماذا تفعل؟”، ما ارتبك الشيخ وكأنّه فكّر في الأمر وقال: “في البداية أبقى إلى جانبك لكي يألفوك، وبعدها أنصرف إلى إدارة أرض الأزهر الزراعية، فأنت تعلم أنّنا جميعاً في الأصل فلّاحون”.
إقرأ أيضاً: الفكرة اللبنانيّة أقوى من الحزب
أين أنت أيّها الراحل الكبير من عشرات بل مئات المحترفين باسم الدين الراكضين باتجاه أوستراليا وكندا والبرازيل لجمع المال لجمعيّاتهم المصنوعة ورئاساتهم المزوّرة ومساجد الضِرار التي يشيدونها: ]إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرةً ثمّ يُغلبون[ }سورة الأنفال، الآية 36{.
وفاة المفتي الشيخ خليل الميس تذكيرٌ لنا جميعاً بضرورة العناية الفائقة بالمؤسسات الدينية التابعة لدار الفتوى، من أجل السهر على تعليم وتدريب نخبة دينيةٍ جديدةٍ لزمانٍ جديد.