إلى متى تبقى غزّة تتعاقد مع الدم والدمار؟

مدة القراءة 7 د

قدر قطاع غزة، هذا الشريط الساحلي الضيّق على البحر المتوسط، والمكتظّ بالسكّان، الذي حمل اسم فلسطين بعد النكبة، حين لم يبقَ من الساحل الفلسطيني سوى هذا الشريط، بعدما سرقت إسرائيل حيفا ويافا وعكا…. قدر القطاع أن يبقى مخزناً للحزن والألم الذي لا ينتهي في منطقة تعاقدت مع الدم والدمار، ولم تعرف البطالة منذ امتهنت الحروب، ومنذ انسلخت عن الجناح الثاني للوطن، الضفّة الغربية، وأطلقوا عليها لقب “غزّة مصنع الرجال”، و”غزّة الصخرة التي لا تنكسر”.

صحيح أنّ جولة القتال بين إسرائيل و”الجهاد الإسلامي” قد انتهت بالمفهوم اللحظي، بعد سقوط عشرات الضحايا من الأطفال والنساء، وهدم المنازل على رؤوس ساكنيها، وبعدما تحوّلت غزّة إلى مدينة أشباح، لكن بالمفهوم السياسي والعسكري ما هي إلا صولة، سبقتها صولات، وستتبعها جولات تصعيد أخرى، والمسألة ليست سوى مسألة وقت.

تتكرّر مناخات الحرب في قطاع غزة منذ عقد ونصف عقد، أي منذ أن طردت حركة حماس “السلطة” من قطاع غزة، وفرضت إسرائيل حصاراً مشدّداً أنتج ما يكفي من صواعق لتفجير الحروب.

حقّقت إسرائيل غايتها التكتيكية من حملتها المقنّنة جدّاً من الناحية العسكرية على غزّة

من المعروف أنّ للحرب أسبابها وحساباتها المعقّدة، التي تتداخل فيها المصادفة مع التخطيط المسبق والحسابات الأيديولوجية والسياسية والانتخابية، والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية ومزاج القادة. غير أنّه في منطقة مثل غزّة شديدة التعقيد والأهميّة في الجغرافيا السياسية، وتحوّلت إلى سجن كبير لأبنائها، يظلّ السؤال الكبير المحمول على أجنحة القلق والخوف يحوم في عقول الغزّيّين، الذين وجدوا أنفسهم عالقين في فخّ الجغرافيا وفخّ الانقسام، وبين مستنقع من الألغام ممكن أن ينفجر في أيّ لحظة، وباتت لهم الحياة كأنّها وقت مستقطع بين حربين يتمنّون أن يطول قليلاً، حتى يستطيعوا أن يلتقطوا أنفاسهم، ويلملموا جراحهم.

إلى متى ستبقى غزّة خارج دورة الحياة الطبيعية تدفع فاتورة الدم وفاتورة الانقسام؟ لم يعد بمقدور غزّة أن تتحمّل فاتورة الصراع مع إسرائيل لوحدها، وهي لم يعد بمقدورها أن تبقى مختبراً للدم والأسلحة أو معملاً لتجارب الإسلام السياسي، أو أن تبقى فقط ملفّاً إنسانيّاً اقتصاديّاً، خارج النسيج الوطني الذي يربطها بالضفّة الغربية، أو أن تبقى كيس رمل لتبادل اللكمات بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، ولا أن تكون صندوق بريد لطرود مفخّخة بين الإقليم وتل أبيب، أو أن يظلّوا يصفونها بأنّها الصخرة التي لا تنكسر.

 

تقزيم المطالب الفلسطينية

في كلّ الحروب التي شنّتها إسرائيل على القطاع كانت إسرائيل هي المخطّطة، وهي التي تدفع الفلسطينيين إلى الفخّ، وهي التي تنهيها بعد أن تحقّق منها أهدافها المعلنة وغير المعلنة. وفي كلّ مرّة تتقزّم مطالبنا، فبدلاً من التحرير، تصبح العودة إلى الوضع الذي كنّا عليه قبل العدوان هو جلّ أمانينا.

هذه هي الحقيقة المرّة، والحديث عن تثبيت معادلات جديدة مع الاحتلال، وتوازن الرعب، وترسيخ قواعد جديدة للصراع، وزلزلة الأرض تحت أقدام الغزاة، بعد كلّ جولة قتال، هذه كلّها لا تخدم سوى الأجندات الفصائلية، وتهدف إلى عملقتها، وليست موجودة في القاموس الإسرائيلي.

لقد حقّقت إسرائيل غايتها التكتيكية من حملتها المقنّنة جدّاً من الناحية العسكرية على غزّة، بعد تصفية قائد المنطقة الجنوبية في قطاع غزة في “الجهاد الإسلامي” خالد منصور، وقائد المنطقة الشمالية تيسير الجعبري، ورئيس منظومة الصواريخ المضادّة للدبابات في “الجهاد”، والعديد من القيادات الميدانية واللوجستية، وذلك من دون وقوع خسائر تُذكر في الجانب الإسرائيلي، على الرغم من إلقاء “الجهاد الإسلامي” مئات الصواريخ في اتجاه مدن غلاف غزّة ومدن المركز.

ترى تل أبيب أنّ نجاحها الأبرز هو عدم السماح لحركة الجهاد الإسلامي، أقلّه في المنظور القريب، بما باتت حركتا الجهاد وحماس تسمّيانه وحدة الساحات، أي الردّ عسكرياً في غزّة على ما يجري في الضفّة والقدس، وعدم السماح بفرض واقع جديد وفق وصف إسرائيل يتمّ فيه الربط بين ما تسمّيه تل أبيب النشاط العمليّاتي الاعتيادي لإسرائيل ضدّ نشطاء “الإرهاب” التابعين للتنظيم في الضفّة وبين المسّ بسير حياة سكّان الجنوب!

من هنا نستطيع أن نفهم قيام الجيش الإسرائيلي باعتقال نحو 20 عضواً من “الجهاد الإسلامي” في الضفّة في ذروة العملية العسكرية على غزّة، فهي كانت محاولة من إسرائيل لإرسال رسالة إلى “الجهاد” تقول لها فيها: هل تحاولون ترسيخ معادلة ردع تمنعنا من اعتقال رجالكم في الضفّة؟ نحن بالتأكيد سنزيد وتيرة الاعتقالات.

صحيح أنّ جولة القتال بين إسرائيل و”الجهاد الإسلامي” قد انتهت بالمفهوم اللحظي، لكن بالمفهوم السياسي والعسكري ما هي إلا صولة، سبقتها صولات، وستتبعها جولات تصعيد أخرى

كان هناك إجماع في القيادة الأمنيّة والسياسية على أنّه ينبغي السعي إلى هذه الجولة من القتال والحفاظ على صورة النصر، قبل أن تتدحرج إلى حملة عسكرية شاملة في حال دخول حركة حماس دائرة النيران، ووقوع خسائر بشرية من الإسرائيليين.

على الرغم من زعم وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، أنّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي لم تقدّم تعهّدات بالإفراج عن الأسيرين بسام السعدي وخليل عواودة المضرب عن الطعام منذ 150 يوماً، في إطار تفاهمات وقف إطلاق النار التي تمّ التوصّل إليها مع “الجهاد الإسلامي” برعاية مصرية، إلا أنّه في نهاية المطاف لا تستطيع تل أبيب التنصّل من هذا الاستحقاق، وخصوصاً أنّه كان أحد البنود المهمّة في الإعلان المصري عن وقف النار، والذي جاء فيه أنّ “مصر تبذل جهودها للعمل على الإفراج عن الأسير خليل العواودة، وكذلك العمل على الإفراج عن الأسير بسام السعدي في أقرب وقت ممكن”.

 

حصّة لابيد من الدم الفلسطيني

حصل رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد على حصّته من الدم الفلسطيني، حصة متأخّرة لرجل بلا ماضٍ عسكري أو سياسي. كانت تلك نقطة ضعفه أمام خصومه من اليمين واليسار، إذ كان ألبومه الشخصي خالياً من صورة بملابس الجيش وخوذة وبندقية، لكنّه الآن يستطيع أن يسجّل لنفسه إنجازاً كبيراً بأنّه نجح في قيادة عملية عسكرية أودت بحياة 46 مواطناً في قطاع غزّة، ويحصل على سيل من الإطراء والإشادة من الرأي العامّ الإسرائيلي بأنّه أثبت أنّه رجل دولة، لا صحافي يرتدي بدلة عنق وحسب، ويدير أحاديثه وحواراته في استديو مكيّف.

حصل لابيد أيضاً على حصّته من الدم الفلسطيني من الضفة الغربية، بعد تصفية ثلاثة نشطاء في البلدة القديمة في نابلس، بعد محاصرتهم وتصفيتهم، وأحدهم يُطلق عليه “أسد نابلس”، وهو الشهيد إبراهيم النابلسي. واعتبرت صحيفة “يسرائيل هيوم” أنّ النابلسي كان يشبّه نفسه بالقيادي في كتائب الأقصى، الأسير زكريا الزبيدي، وكان يظهر على شبكات التواصل الاجتماعي. وتماماً مثل الزبيدي الذي كان يعمل في مخيّم جنين ضدّ إسرائيل، عمل النابلسي من نابلس. ووفقاً للصحيفة، فإنّ الشاباك تلقّى معلومات عن هجمات كان يخطّط لها، وخاصة على خلفيّة العملية العسكرية بغزّة، وعندما حانت الفرصة لتنفيذ عملية ضدّه تمّ التحرّك وقتله.

إقرأ أيضاً: الانتخابات: الحلقة المفقودة في السلسلة الفلسطينيّة

إلّا أنّه على الرغم من التأييد الواسع للعدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزّة، واعتقاد 68% من الجمهور الإسرائيلي أنّ إسرائيل انتصرت على “الجهاد الإسلامي” بفضل أداء القيادتين السياسية والأمنيّة برئاسة لابيد، غير أنّ ذلك لا ينعكس على نتائج الانتخابات الإسرائيلية، إذ ظلّ الليكود بزعامة بنيامين نتانياهو يحافظ على تفوّقه، حسب استطلاع القناة 13 العبرية، في حين حلّ حزب “ييش عتيد” ثانياً برئاسة يائير لابيد… أقلّه حتّى الآن.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…