لا يمكن الاستخفاف بالخطوة التركية المتمثّلة بإعادة العلاقات الكاملة مع إسرائيل. ترتدي هذه الخطوة أهمّية استثنائيّة، خصوصاً في ظلّ الظروف التي تمرّ فيها المنطقة والعالم، في ضوء الحرب الأوكرانية من جهة، واحتمال عقد صفقة أميركية – إيرانيّة من جهة أخرى.
تحرّرت تركيا من عِقَد عدّة فجأة. تحرّرت، أوّل ما تحرّرت، من العِقَد التي تحكّمت بشخص رجب طيب إردوغان الذي أراد في مرحلة معيّنة لعب دور زعيم العالم الإسلامي والرجل القويّ في المنطقة، إلى أن اكتشف أنّ تركيا ليست سوى دولة من دول العالم الثالث، وأنّ في استطاعتها أن تصبح دولة مزدهرة اقتصادياً في حال تخلّت عن وهم العودة إلى أيّام الدولة العثمانيّة. هذه مرحلة انتهت تماماً لا يمكن لفكر الإخوان المسلمين، الذي وقع إردوغان في شِراكه، إحياؤها.
حرّرت حرب أوكرانيا الرئيس التركي من الضغط الروسي. بعد الحرب الأوكرانيّة التي مضى عليها ستّة أشهر، صار فلاديمير بوتين في حاجة إلى رجب طيّب إردوغان وليس العكس، وذلك بغية تفادي الوقوع كلّيّاً في الحضن الإيراني. هذا ما جعل الرئيس التركي أكثر مرونة وواقعيّة، خصوصاً بعدما تصالح مع دول الخليج العربي كلّها بعدما كان حصر علاقاته بتلك المنطقة بما تقرّره له قطر من برامج وجداول عمل وأجندات.
يمكن للاستراتيجية التركيّة الجديدة أن تساعد إردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة المتوقّعة في السنة 2023
لعلّ المكان الذي سيظهر فيه مدى تعقّل إردوغان، في حال حصوله، هو سوريا حيث حقّق المشروع التركي منذ العام 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبيّة السوريّة، الفشل تلو الآخر بعدما انتزعت إيران المبادرة وسارعت إلى الوقوف مع نظام أقلّويّ في حرب مع شعبه. تجاهلت إيران وجود أكثريّة سنّيّة في سوريا وعملت على إحداث تغيير ديمغرافي عميق في البلد بعدما وجدت أمامها ضياعاً تركيّاً ليس بعده ضياع تعبّر عنه هذه الأيّام تصريحات لمسؤولين أتراك جعلت المعارضة السوريّة في حيرة من أمرها. يحتاج كلّ حرف من هذه التصريحات إلى توضيح كي يُفهَم أنّ تركيا لم تتخلَّ عمليّاً عن الشعب السوري ولم يضِق ذرعها بالسوريّين الموجودين في أراضيها.
في وقت تتحدّث تركيا عن عملية عسكريّة في الشمال السوري، وفي وقت تسعى إيران إلى التمدّد في محيط حلب، يمكن للعلاقات بين تركيا وإسرائيل أن تزيد الضغوط على دمشق حيث النظام في وضع لا يُحسد عليه في ظلّ تدهور معيشيّ لا سابق له في مناطق سيطرته. تستطيع تركيا الضغط اقتصادياً وعسكرياً وزراعيّاً ومائيّاً في الداخل السوري في حال أراد ما يُسمّى “محور الممانعة” إيذاء إسرائيل عن طريق استخدام الأراضي السوريّة.
أكثر من ذلك، سيكون الوجود الإيراني المتزايد في الشمال السوري، وتحديداً في حلب ومحيطها، تحت خطر ضربات إسرائيلية وتهديدات تُنفّذ عبر أجواء تركيا. أمّا بالنسبة إلى الأكراد، وهو موضوع أساسي لتركيا، فربّما يستطيع إردوغان تحييد الدعم الأميركي والإسرائيلي لهؤلاء أو تخفيفه.
تعتمد تركيا استراتيجية جديدة على الصعيد الإقليمي في ضوء حرب أوكرانيا واحتمال حصول الصفقة الأميركيّة – الإيرانيّة. جعلتها هذه الاستراتيجية تنسى مغامرة رجب طيّب إردوغان الذي أراد في العام 2010 فكّ الحصار عن قطاع غزّة. كان الفشل من نصيب تلك المغامرة التي كشفت أنّ الرئيس التركي كان يتمتّع في تلك المرحلة بمقدار كبير من قصر النظر والمعرفة بموازين القوى في المنطقة والعالم.
يمكن للاستراتيجية التركيّة الجديدة أن تساعد إردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة المتوقّعة في السنة 2023. كذلك يمكن لعودة العلاقات الإسرائيلية – التركية أن تساعد حكومة الثنائي يائير لابيد – بيني غانتس في الدولة العبرية. يحتاج هذا الثنائي إلى مقعدين إضافيّين في انتخابات الكنيست المقرّرة في مطلع تشرين الثاني المقبل كي يمنعا بنيامين نتانياهو من العودة إلى موقع رئيس الوزراء.
الأكيد أنّ الإدارة الأميركيّة الحالية تلعب دوراً في دعم الثنائي لابيد – غانتس حيث تستطيع. يبدو أنّها ليست بعيدة عن التقارب الإسرائيلي – التركي. ما هو أكيد أكثر أنّ إردوغان نفسه بدأ يعي أن لا مفرّ من استرضاء الولايات المتحدة. تؤكّد ذلك زيارته لأوكرانيا حيث التقى الرئيس فولوديمير زيلنسكي بحضور الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. لم يأبه إردوغان بردّ فعل فلاديمير بوتين على لقائه مع عدوّه اللدود. يُظهر ذلك مدى حاجة روسيا إلى تركيا في هذه الأيّام بالذات.
يعطي التحوّل في الموقف التركي فكرة عن العالم الجديد الذي يولد من رحم الحرب الأوكرانيّة. تشكّل تركيا ودورها جزءاً من هذا العالم الجديد. إنّه تحوُّل يدعو إلى التساؤل عن موقع تركيا في المنطقة وعن قدرتها على تحقيق مكاسب تؤدّي إلى تحسين وضع إردوغان في الداخل. الجواب أنّ الكثير سيعتمد على استعداد الرئيس التركي للذهاب بعيداً في هذا التحوُّل بعيداً عن أوهامه الشخصيّة ذات الطابع العثماني.
هناك شبكة علاقات مهمّة إلى حدّ كبير تربط بين دول البحر المتوسط. تتضمّن هذه الشبكة التعاون المصري – الإسرائيلي في مجال الغاز، كذلك خطوط الغاز التي ستربط المتوسّط بأوروبا التي قرّرت دفع ثمن الاستغناء عن الغاز الروسي، مهما كلّف الأمر.
وجد الرئيس التركي أنّه في حال كان يريد بالفعل أن تكون تركيا جزءاً من العالم الجديد، الذي لا تكون فيه أوروبا تحت رحمة الغاز الروسي، فليس أمامها سوى التصالح مع محيطها، بما في ذلك إسرائيل. لكنّ هذه المصالحة ستبقى معزولة من دون مزيد من الخطوات التصالحيّة التركيّة تجاه قبرص واليونان من جهة، ومن دون الكفّ عن لعب دور متذبذب في سوريا من جهة أخرى.
إقرأ أيضاً: متى يدفع بوتين الثمن؟
يبدو أنّ روسيا، التي بدأت تأخذ علماً بحجم فشلها الأوكراني، صارت تعي بأنّ عليها استرضاء تركيا، وتحديداً في سوريا حيث الاتجاه إلى تعديل اتفاق أضنة السوري – التركي لمصلحة أنقرة تفادياً لعملية عسكرية تركيّة كبيرة في الشمال السوري. يعني ذلك ولادة “أضنة – 2” بمباركة روسيا في عمق 35 كيلومتراً داخل الأراضي السوريّة!