مع اقتراب نهاية عهد الرئيس ميشال عون تُطوى صفحة من تاريخ لبنان السياسي. لا يمكن الحديث عن صفحة رئاسية جديدة من دون مراجعة للواقع الإقليمي والمحلّي، مع أرجحيّة طاغية للعامل الخارجي. هذا ما علّمنا إيّاه لبنان الحديث على الأقلّ. تجربة انتخاب رؤساء جمهوريّتَيْ «لبنان الاستقلال» (الأولى) و«لبنان الطائف» (الثانية) تحسم هذا الرأي. لا مؤامرة ولا احتلال. هذا واقع نظام ديمقراطي فريد من نوعه يعيش على التوازن الإقليمي والتوافق المحلّي. اليوم العالم العربي يعيش بين بين، بين حالة اللاحرب واللاسلم. أمّا الوضع الداخلي اللبناني فحدّث ولا حرج، وهو ما يستدرج التدخّل الخارجي في الاستحقاق الرئاسي على جاري العادة اللبنانية المستعصية.
مع نهاية كلّ عهد تتداول بين الناس بورصة للمرشّحين الرئاسيّين. تتوسّع اللائحة قبل أن تبدأ بالتناقص مع اقتراب موعد الانتخابات. تتوزّع بين ضابط متأهّب وبيك ينتظر ومحامٍ مستقلّ وبضعة مرشّحين موسميّين، مع باقة من أوراق الاعتماد بصيغة زيارات بعيدة عن الأضواء وبيانات وتصريحات تتطاير باحثة عن رديف إقليمي. يبقى الأساس أنّ الموضوع أكبر من طموحات فردية. المسألة ليست في أيّ طائفة ينتمي إليها المرشّح فقط، فالحكاية تبدأ من الطائفية السياسية ونظام المحاصصة في السلطة وصولاً إلى التأثير الخارجي. هنا نقول فتّش عن الناخب الأوّل لا عن المرشّح المؤهّل.
أولويات الدول المعنية تجعل الاستحقاق الرئاسى أكثر إبهاما. غير أن للاستحقاق قدرة فى جذب الانتباه الخارجى لا يمكن الاستهانة بها. لطالما كان لبيروت دور على الخريطة
الحديث عن الناخب الأوّل يدفعنا إلى التأمّل في التجارب الرئاسية السابقة. يستدعي التدقيق بالذاكرة الجماعية اللبنانية القول إنّ معظم رؤساء جمهورية لبنان الحديث جاؤوا بالتوافق مع الخارج. مع بشارة الخوري كان توافق بين الزعيم المصري مصطفى النحاس باشا والرئيس السوري شكري القوتلي، ومع الرئيس كميل شمعون بين الراعي الإنكليزي والرئيس السوري أديب الشيشكلي، ومع الرئيس فؤاد شهاب بين الأميركيين والرئيس المصري جمال عبدالناصر، ومع إلياس سركيس بين الأميركيين والرئيس السوري حافظ الأسد، ومع الأخوين بشير وأمين الجميَل بين الأميركيين والإسرائيليين، ومع رينيه معوض بين الأميركيين والمملكة العربية السعودية والرئيس حافظ الأسد، ومع إلياس الهراوي وإميل لحود (العهد الأوّل) كان للسعوديين والسوريين الكلمة الفصل. ثمّ على إثر اتفاق الدوحة جاء قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. لعلّ الاستثناء الوحيد في الفولكلور الرئاسي هو الرئيس سليمان فرنجية الذي جاء بلعبة الأصوات (الفارق صوت واحد)، وهو ما يقودنا إلى الاستنتاج أنّ الناخب الأوّل هو الخارج.
طبعاً لا يمكن إغفال تجربة انتخاب الرئيس ميشال عون الذي وصل إلى كرسي الرئاسة ضمن تسوية رئاسية صيغت على عدّة مراحل. بدأت بتفاهم معراب بينه وبين رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، واستُكملت مع الرئيس سعد الحريرى في ما لُقّب بـ”التسوية الرئاسية” 2016. وقبل كلّ ذلك اتفاق مار مخايل الشهير بين التيار الوطني الحر وحزب الله في العام 2006. تراكم من التسويات ضمنت لميشال عون النصاب الميثاقي والقانوني في مجلس النواب اللبناني عام 2016. لكن ما هكذا تورد رئاسة الجمهورية في بلاد الأرز. ما فات المتّفقين أنّ غياب التوافق الإقليمي دونه أكلاف. فما فائدة رئيس قوي لجمهورية ضعيفة؟
في رحلة البحث عن الناخب الأول يحتار المرء في ترتيب أيّهم أكثر قدرة على التدخّل، علماً أنّ اللائحة هي ذاتها لم تتغيّر على مرّ العقود الماضية، من طهران المنشغلة بمفاوضاتها النووية واستمرار تفويضها لحليفها الإقليمي حزب الله، مروراً بواشنطن التيي أصبحت ترى المنطقة من زاوية الحرب الروسية الأوكرانية وكلّ ما تحمله من تأثير على سوق الطاقة العالمي وسلاسل الإمداد الغذائية، وصولاً إلى الرياض التي لا تريد أن تسمع بلبنان حتى ولو كان سمير جعجع مرشّحاً جدّيّاً. أمّا باريس الطامحة إلى دور مستجدّ في الشرق الأوسط فلم يلتقط فريق إيمانويل ماكرون أنّ فرنسا تتحرّك في الهامش الذي لم يتحوّل إلى نفوذ على الرغم من انفجار 4 آب 2020!
تجعل أولويّات الدول المعنيّة الاستحقاق الرئاسيّ أكثر إبهاماً. غير أنّ للاستحقاق قدرة على جذب الانتباه الخارجي لا يمكن الاستهانة بها. لطالما كان لبيروت دور على الخريطة. يمتصّ لبنان تناقضات الإقليم ومحاوره، يمضغها ويهضمها ثمّ يُعيد بثّها في المنطقة. إقليمياً تكبرالتناقضات. أصبحت الفجوات بين الحلفاء ضمن المحور الواحد أكثر اتساعاً مع انحسار دور المحاور فى المنطقة. وهو ما يلغي دور لبنان الوظيفي على الخريطة. هنا يصبح السؤال عن أيّ رئيس يبحث الخارج؟ عن رئيس أكبر من الجمهورية؟ أم رئيس أصغر منها؟ لربّما يُصار إلى انتخاب رئيس فقط. تصبح المهمّة عندها هي قتل الفراغ. الباقي تفاصيل من المنظور الإقليمي. تأليف حكومة جديدة تفصيل. ترسيم الحدود البحرية تفصيل. التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي تفصيل. وفي ظلّ غياب دور لبنان الوظيفي على الخريطة لا مانع من شراء ستّ سنوات إضافية من الاستقرار اللبناني القلق.
إقرأ أيضاً: انتخابات الرئاسة رهينة “الترسيم”
إلا أنّ من يعرف لبنان جيّداً يعرف أنّ التفاصيل تصبح قضايا أساسية في لحظة أمنيّة مباغتة، وهو ما قد يحدث أيضاً في الأسابيع المقبلة غداة خروج الرئيس ميشال عون من القصر الجمهوري من دون انتخاب خلف له. على حدّ وصف أحد المتابعين للاستحقاق الرئاسي، قد تثيرالمفرقعات النارية للمبتهجين بانتهاء العهد استياء مناصرين لصاحب العهد المنتهية ولايته، وهو ما قد يؤدّي إلى اشتباكات أهليّة تستدرج العالم كلّه. عندها يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود لكرسي الجمهورية الأوّل فى لبنان.
*كاتب سعودي
*نقلاً عن الشروق المصرية