يكثر حديث الوسط السياسيّ بلبنان في التفاصيل التي تُغرق المسائل الجوهرية والمصيرية وتحجبها.
فبعد ثلاثة أشهر من اعتبار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 22 أيار الماضي مستقيلةً إثر انتخاب المجلس النيابي الجديد، تجري محاولة إحياء تأليف الحكومة البديلة، تحت عنوان واحد هو تفادي بقاء حكومة تصريف الأعمال إذا حصل الفراغ الرئاسي في 31 تشرين الأول المقبل، حتى لا يجري التشكيك في دستوريّة تسلّمها صلاحيّات الرئاسة الأولى.
موجب الحكومة الفراغ الرئاسيّ لا الدستور
إذاً موجب تشكيل الحكومة هو الاحتياط للفراغ، وليس ضرورة قيام حكومة كما يفرض الدستور، وكسب بعض الوقت من أجل اتّخاذ القرارات الإصلاحية التي ينتظرها صندوق النقد الدولي بحيث يتمّ تسريع تقديم المساعدات مع انتخاب الرئيس الجديد. فالدبلوماسيون الأجانب يرون أنّ حكومة ولو لشهر واحد بإمكانها اتّخاذ بعض القرارات الملحّة. الموجب هو “تشريع” الفراغ، الذي بات بالنسبة إلى بعض اللاعبين السياسيين جزءاً من المشهد السياسي منذ أكثر من ثلاثة عقود، أي منذ أن أنهى الرئيس الأسبق أمين الجميّل ولايته بتسليم قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون مقاليد الرئاسة بتعيينه رئيساً للحكومة، فلم يتمّ انتخاب الرئيس رينيه معوض ثمّ الرئيس الياس الهراوي في خريف 1989.
سواء نجحت محاولات تأليف الحكومة، أم لم تنجح، فإنّ التحرّك في هذا الصدد أقرب إلى لعبة تعبئة الوقت الضائع، وإلهاء الوسط السياسي عن القضية الجوهريّة، وهي إطلاق مرحلة جديدة يُتوقّع لها أن تدشّن مساراً إنقاذيّاً مع انتخاب رئيس جديد
مع الضجيج حول التأليف تقفز أسئلة بديهية إلى الواجهة:
– إذا كان تعطيل تأليف الحكومة من قبل الفريق الرئاسي بفعل الشروط التي طرحها على ميقاتي قد اقتضى ابتداع كلّ المناورات من أجل استخدام سلاح الفراغ الحكومي لمدّة 3 أشهر للتأثير به على الاستحقاق الرئاسي وللضغط به على الخيارات في شأن المرشّحين، فهل هناك تبديل في الأهداف تسمح الآن بإنهاء الفراغ الحكومي؟
– وإذا صحّ افتراض أنّ ما يجري التداول به هو تعويم حكومة تصريف الأعمال بتغيير اسمين يرغب ميقاتي بتبديل أحدهما، أمين سلام في الاقتصاد، ولا يمانع عون في تغيير الثاني، وهو وزير المهجّرين عصام شرف الدين، وبقاء حقيبة الطاقة مع الوزير الحالي وليد فياض، وفي أحسن الحالات مَن يسمّيه عون، وصدور مرسوم إعادة تأليفها مع ما يعنيه ذلك من صياغة بيانها الوزاري والمثول أمام البرلمان للحصول على الثقة، فهل زالت شروط عون ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بإقالة رياض سلامة وتعيين بديل منه وإصدار مرسوم التجنيس الذي أعدّته دوائر القصر وإجراء التعيينات الإدارية والتشكيلات الدبلوماسية التي يريدانها؟
– أم أنّ تعليمة “حزب الله”، المقرِّر الرئيسي في التركيبة الحاكمة، بحصر موجب قيام الحكومة بضرورة الاحتياط للفراغ الرئاسي، تعني “إقناع” باسيل بالعزوف عن طرح المطالب التعجيزية التي سبق لميقاتي أن رفضها؟
الحلقة المفرغة وابتزاز التأليف والرئاسة
المطالب-الشروط التي سبق لميقاتي أن رفضها لم تُطرح عند إحياء التواصل بينه وبين عون الأربعاء الماضي، لكن لا ضمانة بألّا يعود باسيل إليها، أي إلى الحلقة المفرغة العبثيّة إيّاها: استخدام التأليف للابتزاز بجعل قيام الحكومة مشروطاً بالمكاسب لتأمين القدرة على التحكّم بالعهد الجديد انطلاقاً من المواقع الإدارية العليا… وإلّا الحؤول دون تشكيل الحكومة لتسويغ المناداة بلاشرعيّة تسلّمها صلاحيّات الرئاسة. فأوراق الابتزاز الأخرى باتت هالكة، بما فيها ترشّح باسيل للرئاسة للمقايضة مع المرشّح المحظوظ لم يعد ينفع. لأنّه مقتنع منذ زمن بأنّه غير وارد، كما أبلغ إلى المقرّبين.
الرجل “مذعور”، حسب من يعرفونه، من أنّ عهداً جديداً سينزع منه أختام الرئاسة التي منحه إيّاها عمّه على مدى 6 سنوات، ومن تصفية تركة المكاسب التي خلّفها. والأوساط التي استمعت إلى مواصفاته للرئيس العتيد، أي أن يتمتّع بدعم كتلة نيابية مسيحية وازنة وبتأييد شعبي، تعتقد أنّه استدراج عروض للمرشّحين، ومحاولة للتقاطع مع غريمه حزب “القوات اللبنانية” على استبعاد رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، إذا رجحت كفّته. فالأخير رفض تقديم ضمانة مكتوبة بتحقيق التعيينات التي يطمح إليها رئيس “التيار الوطني الحر”.
غموض الرئاسة ورماديّة فيينا
سواء نجحت محاولات تأليف الحكومة، وهو ما يستبعده المتابعون لحركة ميقاتي، أم لم تنجح، فإنّ التحرّك في هذا الصدد أقرب إلى لعبة تعبئة الوقت الضائع، وإلهاء الوسط السياسي عن القضية الجوهريّة، وهي إطلاق مرحلة جديدة يُتوقّع لها أن تدشّن مساراً إنقاذيّاً مع انتخاب رئيس جديد.
لكنّ لدى أكثر من جهة سياسية قناعةً بأنّ الغموض الذي يحيط بالاستحقاق الرئاسي يعود إلى الرماديّة التي تتّسم بها مفاوضات فيينا. حتى لو نفى “حزب الله” لرئيس “الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في جلسة الحوار معه أيّ ربط بين ترسيم الحدود والوضع اللبناني والرئاسة وبين المفاوضات النوويّة المعقّدة.
كان يمكن لهذا النفي أن يكون صحيحاً لولا أنّ “الحزب” أبلغ الوسيط الأميركي في ملف ترسيم الحدود آموس هوكستين عبر أحد الوسطاء، حين دعا إلى التهدئة وعدم الانجرار إلى الحرب بعد إطلاق المسيَّرات نحو حقل “كاريش” الإسرائيلي للغاز، بأن “ليس لدينا شيء نخسره، وسنذهب إلى مواجهة الضغوط من قبلكم ومن قبل إسرائيل علينا وعلى إيران إذا لم تتمّ تلبية مطلب إنجاز الترسيم والسماح للبنان بالتنقيب والاستخراج مقابل استخراج إسرائيل للغاز”. فإقحام “إيران” بهذا التهديد لا يعني سوى ربط أيّ تصعيد على جبهة إسرائيل – الحزب باستمرار الضغوط عبر العقوبات على طهران جرّاء تعثّر فيينا، والعمليات الاستخبارية الإسرائيلية في الداخل الإيراني، والقصف على مواقع “حرس الثورة” في سوريا.
الانطباع السائد هو أنّ اتّجاه الأمور في فيينا نحو الانفراج يسهِّل التوافق على إجراء انتخابات الرئاسة في لبنان، ويقصّر مدّة الفراغ الرئاسي بعد 31 تشرين الأول، ويحدّد هويّة الرئيس، ولا سيّما إذا كان سيأتي بالتوافق. أمّا تأخير الانفراج في الملفّ النووي فسيُبقي لبنان معلّقاً بل في مأزق قد يُطيل الفراغ في الرئاسة وقد يحدّد هويّة صداميّة للرئيس العتيد. لكنّ المرحلة الرمادية تفرض أيضاً على الحزب أن يواكبها بابتداع وسائل لتأجيل الاستحقاق الرئاسي بموازاة المناورة الإيرانية التي لم ترفض الاقتراح الأوروبي لإنقاذ اتفاق فيينا، ولم تقبل به. فوزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان اعتبر أنّه “ستكون هناك حاجة إلى مزيد من المحادثات النووية إذا رفضت واشنطن إبداء مرونة”. وهو بهذا يتوقّع تمديداً للمحادثات.
كيف يكسب الحزب الوقت؟
التسريبات الإيرانية تتأرجح بين القول إنّ “نقاط الالتقاء أكثر من نقاط الافتراق في المسوّدة الأوروبية للاتفاق”، وإنّ أطراف المفاوضات “أقرب الآن إلى الاتفاق من أيّ وقت مضى”، كما صرّح المستشار الإعلامي للوفد الإيراني في المفاوضات محمد مرندي، وبين قول مصدر في مجلس الأمن القومي الإيراني إنّ نقاط التفاوض “ما تزال غير متقاربة”. فماذا عسى الحزب يقول إذا كان المطلوب المزيد من الوقت قبل أن تنقشع الحصيلة النهائية للنقاش على المسوّدة الأوروبية، وإبقاء لبنان معلّقاً على ساعة فيينا؟
تمديد التفاوض في فيينا الذي تسعى إليه طهران باعتماد أسلوب النَفَس الطويل لا بدّ من أن يواكبه “حزب الله” بكسب المزيد من الوقت ولو على حساب انتظام المؤسّسات الدستورية، وبالتالي خفض المعاناة اللبنانية.
إذا كان جنبلاط برّر حواره مع “حزب الله” بالقول لجريدة “لوريان لوجور”: “عندما تتحدّث القوى العظمى مع بعضها، إيران والولايات المتحدة عبر أوروبا، والسعودية وإيران في بغداد، ألا يحقّ لنا في لبنان أن يتحدّث بعضنا مع البعض الآخر”، فهو بذلك يراهن على التقاط لحظة تفاهم في الخارج لعلّها تنعكس في لبنان، من دون أن يستبعد العكس، وفق الأسئلة التي طرحها على قيادة الحزب ولم يحصل منها إلّا على قبوله بألّا يكون الرئيس المقبل رئيس تحدٍّ.
إقرأ أيضاً: إيران فكّكت القرار 1701… ومعه فكّكت لبنان
لكنّ الأجوبة الأخرى التي ينتظرها قد تأتي رماديّة في بعضها، مثل أجوبة طهران على المسوّدة الأوروبية، في ظلّ مواصلتها تخصيب اليورانيوم. فالحزب أيضاً يحتاج إلى “تخصيب” تنسيق خطواته بالتناغم مع “المعركة” الدائرة في فيينا. وهذا لا بدّ من أن يتسبّب بإرباك مع خصومه وحلفائه على السواء، ويتطلّب تعبئة الوقت الضائع بحديث عن الحكومة أو بحملات وعظ تتعلّق بالتدابير الماليّة المطلوبة.